تتابعت الشرائع وتواضعت على تحديد ماهية المعاصي ودرجاتها، كما حجم درجات عقوباتها برزخياً ودنيوياً، وتتباين المنهيات التي تستوجب على مجترحها وسم المعصية بين شرعة وأخرى بحسب مسيري شؤون التقديس والوكلاء اللاهوتيين غالباً، وإذ إن بنية ومهمة الأديان تقويم حياة الفرد والمجموعة وضبطها، من خلال التشريعات التي تقوم على توجيه الإنسان نحو ممارسة الطاعات الذاتية والمتعدية، وتكافئ عليها كذلك، هي تحظر عليه اجتراح منهيات وتعاقبه عليها، حراسة للفرد والمجموعة من الأضرار التي تنتج جراء تعاطي المحظور، وما يتعاطاه من المنهيات يعد معصية وذنباً، وتتفاوت المعاصي في درجة عقوبتها من ممارسة إلى ممارسة، كما تختلف المعاصي من ذاتية خاصة"بين الإنسان والله"، ومتعدية"تعدي الإنسان على غيره". والذي أنا بصدده، هو استعادة وقراءة رؤية وذهنية منتجي أو محتكري استصدار"صكوك المنهيات"و"مراجعة قصة المعصية وكيف ولِمَ تحولت المعصية إلى معصية"؟ وكيف يتم تحديد أحكام الممارسات التي تُدفع أو تُدجرج ناحية محازة المنهيات والمعاصي؟ ثمة إشكالات حول قصة المعصية: أولها، إذا كان الدين يتعاطى مع أعمال الإنسان من خلال تقسيمها إلى ثلاثة أحكام"طاعات - مناهٍ - مباحات"، فما الأصل في الأحكام إذاً؟ عادة ستكون الإجابة التلقائية أن الأصل هو الإباحة، وأن حيز التحريمات محدود ومسمى بالممارسات، لكن لو استشرفنا علاقتنا مع الدين وماهية التعاطي مع الحلال والحرام، وكيف تفرز المنهيات عن المباحات، لوجدنا أن ثمة إسرافاً في حجم وكم المعاصي التي كانت جزءاً من جغرافيا المباحات، والتي تم إدراجها في خريطة المنهيات بمسوغات عدة، هي في حقيقتها لا تسوغ نقل الفعل من مباح إلى حرام، ولعل قاعدة"سد الذرائع"من أكبر القواعد التي أقلت على متنها حزماً من المباحات إلى حيز المنهيات، وتلك هي المشكلة التي تعاني منها المجتمعات الدينية التقليدية، لمرحلة أن أصيب فئام من المجتمع بحال وسواس وصراع مع المباحات. ثانيها، هل يمتلك الإنسان أن ينخرط في لحظة يؤمن خلالها بأنه يمكنه الخلوص والطهرانية من المعاصي، ويصبح حينها إنساناً خالياً من دنس الخطيئة؟ لن يجرؤ إنسان على توهم ذلك التأله والملائكية، لكن ما يروجه عامة الدعاة والوعاظ يؤكد ذلك الوهم من خلال حال"التبكيت"للعصاة، فكأن المجتمع فئتان عصاة وطهرانيون،"لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"، في ظني أن هؤلاء عجزوا عن استيعاب استحالة ارتفاع الإنسان عن دركات المعصية التي هي جزء من التركيبة الإنسانية التي يتنازعها الضعف والشهوة والخطيئة، وهو ما عبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:"كل ابن آدم خطاء... ". ثالثها، ما يسمى ب"الشعور بالذنب"الذي يُعبر عنه أحياناً ب"تأنيب الضمير"، هل هو شعور طبيعي يشي بإيمان الفرد ويقظة وجدانه الديني وقوة رقابته اللاهوتية الذاتية؟ في رأيي أن هذا الشعور، الشعور بألم ممارسة معصية، غالباً لا يعني التدين والإيمان، بقدر ما يعني ضعف الوعي الذاتي في العلاقة بين الإنسان والمعصية، ولتوضيح الصورة بمثال:"حينما يتسامع الناس عن إنسان بحسبهم أنه إنسان فاضل ومتدين وعن وقوعه في معصية، فالانطباع التلقائي عادة ما يكون بالذهول من اجتراحه الذنب، لمرحلة أن يتم رفضه وإقصاؤه أحياناً"، هذا المثال قد يختصر نظرة المجتمع التقليدي للمعصية، وكيف يتكاثر من أفراد ما وقوعهم في شراك المعصية، التأزم المتغور في الوعي الجماعي عن المعصية والخطيئة أنها مستساغة من فئام دون فئام، وذلك نتيجة التكريس الذي رسخه الدعاة والمتعالمين المحاكاتيين من رجال الدين، والحقيقة التي يستحيل القفز عليها هي أن كل إنسان مهما كان متألهاً متنسكاً، فإنه يمر بمرحلة ضعف ومشارفة للخطيئة، بحكم بشريته التي تدعوه لمناوشه الذنب تحت ضغط الحاجة والغريزة البشرية، التي تتفلت على أي إنسان مهما بلغ من مراقي الإيمان والرهبانية والتفقر اللاهوتي، وذلك ما لا يعيه من نصبوا أنفسهم"دعاةً إلى الله والدين"، وفي إخوة يوسف وحكاية النبي يونس و"عبس وتولى"عبرة لأولى النهى. رابعها، هل ثمة خطورة جراء كثرة التحريمات على الوجدان والعقل والضمير أم أن ذلك كثرة المناهي سياق الدين، وأن الدين ورجاله لا يأتون إلا بخير للعقل والوجدان والضمير، حتى وإن كان ذلك على حساب إثقال وإشغال الذمم؟ في رأيي أن زحمة التحريمات تضيّق مساحة الحرية الإنسانية الخلاقة التي محلها جغرافيا المباحات الواسعة، وهي جزء من الدين القديم، أضف إلى ذلك الكبت والغلواء الوجدانية اللذين تحدثهما التحريمات غير المتساوقة وروح الدين. خامسها، درج الوعاظ والدعاة عموماً على فرز المباح وترحيل بعضه، إذ إن التحريمات ووشم كثير من الممارسات"معاصٍ"، وليس ذلك هو الإشكال بل الإشكال في اللاوعي الديني التقليدي الذي يعتبر رجل الدين الذي يحرم كل شيء، ويشدد على الناس، كما هو يجافي الرخص، ويقدم عليها العزائم، بأنه هو الشيخ الأروع والأقرب لروح الدين، بسبب لا شعور المتلقي العادي، الذي يظن أن الدين يقوم على التحريمات والعزائم، ولذلك يدرج على ألسنة العامة مقولة:"الأجر بحسب المشقة"، لتحول الدين عندهم إلى"مشقة". سادسها، رجال الدين يقسون على الناس بتحويل المباحات إلى معاصٍ في زمن من الأزمنة، تجدهم عبر الأزمنة يعودون إلى استباحة معاصي الأمس، ويحيلوها ناحية موطنها الأصلي"الإباحة"، لتسأل ما الذي تغير عدا هشاشة التحريمات أساساً، كما تجاوز المجتمع لرجال الدين المحاكاتيين، والتلقي من رجال دين آخرين أكثر تسامحاً، ليجد المتشددون أنهم معزولون بعيداً، وذلك ما يدفعهم إلى مسايرة سواد المجتمع. "الحصاد"، المعصية جزء من التكوين البشري الذي تتنازعه الشهوة والضعف والتقلب. التهويل من شأن كثير من المعاصي وجعلها موبقات من خلال حشد الأدلة المجتباة، لأجل تكريس عظمة معصية صغيرة، أحال الدين إلى دهاليز معتمة. ثمة صحابة مارسوا أعظم المعاصي، وتعاطى معهم النبي بحميمية ورحمة ورفق. * كاتب سعودي. [email protected]