لا يمكن لك أن تقرأ سيرة فيلسوف عاش 100 عام،"1900 - 2002"، من دون أن تشدّك الصيغ الفلسفية التي قدّمها في سيرته الذاتية، هكذا هي سيرة الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير، الذي كتب سيرته الذاتية ممزوجةً بنظريته الفلسفية، فأضحت الكتب التي ألّفها مثل"طرق هيدغر"، الذي تُرجم في 2007، أو كتابه النفيس، الذي تمت ترجمته هذه الأيام 2012"التلمذة الفلسفية"، أضحت تلك الكتابات حمّالة لمشاجٍ من وجع الوجود وتعب الرؤية الفلسفية. حضر"هيدغر"كثيراً في كتابات"غادامير"وفاءً له وتأثراً به، غادامير من أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين نقّبوا عن"طرق هيدغر"المتشعّبة، أو"الدروب"الكثيرة! كره"هيدغر"بؤس الناس والعالم والمدينة، فاتجه إلى"الكوخ"، إذ سكن على ارتفاع 1150 متراً في بيت ريفي صغير"6 على 7 أمتار"، يغطي سقفه الواطئ ثلاث غرف: المطبخ، وغرفة النوم، وغرفة للكتب والكتابة، وبينما كان في وحدته وعزلته جاءه خطاب من جامعة"فرايبورغ"طالباً منه أن يصبح للمرة الثانية أستاذاً فيها، فكتب نصاً هو غاية في الشعر والجمال بعنوان"وحدها الغابة السوداء تلهمني"، وهذا النص يشير إليه"غادامير"كثيراً. جاء في ذلك النص رفضه للتقليد الفلسفي العتيق، اقرأه وهو يكتب:"العمل الفلسفي لا يتم بعيداً كما لو أنه فريد من نوعه، إن مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين عندما يجرّ المزارع الشاب المزلاج الثقيل، المحمّل بحطب أشجار الزان، على طول المنحدر الوعر والخطر باتجاه ضيعته، فإن هذا العمل يكون من الصنف نفسه"، كما يشرح ملله من الأكاديميين وباعة الهراء والكلام الفارغ والثرثرة التعيسة، حينما يكتب:"أجلس مع الفلاحين على مقعدٍ أمام المدفأة أو حول طاولة، هناك في الركن، وفي معظم الأحيان لا أتحدث معهم وهم لا يتحدثون أيضاً، فقط ندخن الغليون بصمت، ومن حين إلى حين تسقط منا كلمة لنقول مثلاً إن قطع الخشب في الغابة يقترب من نهايته، وأن السمور في الليلة الماضية داهم قنّ الدجاج وأتلف الكثير منه، وأنه من المحتمل أن تلد البقرة!". يكتب هائماً بالغابة وشتائها الفصيح:"في ليل الشتاء تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت وتأخذ في تغطية ومواراة كل شيء، عندئذٍ يبدأ زمن الفلسفة"، يصبّ"هايدغر"جامّ غضبه على المدنية، متعاطفاً مع الفلاحين:"في المدن، يمكننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات، وهذا هو الطريق المؤكد للسقوط بسرعة في هاوية النسيان". إن"هيدغر"يبثّ من عمقه أبعاد الألم والعدم، من الصعب أن تعثر على كثافة فلسفية داخل نصّ شعري، كما تعثر عليه في نصوص هيدغر. يكتب عن غربته ووحدته، عن التافهين:"في السنة الماضية، كنت قضيت أسابيع بأكملها لوحدي في البيت، صعدتْ تلك العجوز البالغة من العمر 83 عاماً المنحدر الوعر من أجل مقابلتي، وقالت إنها تودّ التحقق من أنني لا زلت موجوداً، ومن أن اللصوص لم يأتوا لسرقة بيتي في غفلةٍ مني، وقد أمضتْ ليلة موتها في نقاشٍ مع أفراد عائلتها، وقبل نصف ساعة من رحيلها إلى العالم الآخر كلفتهم بإبلاغ تحياتها إلى"الأستاذ"، إن ذاكرة كهذه في رأيي أكثر قيمة من أي"روبرتاج"حتى ولو كان جيداً في أي صحيفة مشهورة في العالم حول فلسفتي المزعومة". رأيت من خلال التتبع أن"هيراقليطس، وفيلوكتات، وبرموثيوس، وامبيدوكل، ونيتشه، وهيدغر"كلهم لجأوا إلى الجبال للتفكير والتأمل، وكل دروب أولئك كانت موجعة وصادمة بما فيها"دروب هيدغر"، التي تتبعها وبسخاء تلميذه"غادامير"، الذي كان وفياً جداً لأستاذه"هيدغر". [email protected]