"لا أظن بأني سأفعلها، لا أستطيع ذلك". يتساءل صوت من على الطرف الآخر لسماعة الهاتف ويقول:"ما القصة؟ وش فيك؟"، ليعاود الصوت المتهدج الحزين حديثه شاكياً:"أنا ندمت يا خي... شفت إعلان الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد؟"، ويواصل البكاء. الأسطر السابقة هي جزء من حوار لا يمكن أن يحدث على الإطلاق، على عكس ما كانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تعتقد، حينما بدأت بنشر إعلانها الذي عنونته ب:"معاً ضد الفساد"، تعلوه آية قرآنية، وينتهي لاحقاً بمجموعة من التعبيرات الإنشائية المعتادة التي اعتدنا إسقاطها على الظواهر التي نريد إنهاءها، لكن! توقع ماذا؟ لا شيء يتغير. ومع أن كل مواطن يحفظ عن ظهر قلبه آيات الطلاق، إلا أن نسبته في المجتمع تزداد بشكل غير منطقي، حتى بلغت في دراسات حديثة حالة كل ست دقائق. ومع أن الجميع هُنا سيتنافسون لو طلبت منهم كتابة مقطوعات إنشائية تتناول موضوع الإسراف في المياه، وأسوأهم سيكتب ما لا يقل عن صفحتين، من القطع الكبير، تتضمن آيات وأحاديث ومقولات مأثورة، إلا أنه - ومع ذلك - تعد نسبة هدر المياه هنا الأعلى في العالم، بمعدل 500 لتر يومياً للفرد. وعلى رغم كمية التوعية الدينية والصحية التي تلقاها الجميع بلا استثناء عن أخطار التدخين في البيت، المدرسة، المسجد، مجلس الجيران، الإعلام، طابور المخبز المجاور، إلا أننا نحتل المركز الرابع عالمياً في نسبة استهلاك التبغ. وعدا أن كل شخص يستطيع استحضار قطعة كاملة من المواضع التي تحث على النظافة في الدين، ولربما أشار عليك بالجلوس قليلاً كي يدعم أقواله ببعض المعلومات الطبية، إلا أنه الشخص نفسه الذي ترك طاولة تحمل ضعف ما حملته جدران الكهوف - حول العالم - من رسومات الإنسان الأول، وهو الشخص نفسه الذي يمر على محطات الطرق السريعة، ولست بحاجة لإخبارك كيف يتركها. ولربما - أيضاً - كان"أبو سالم الحزين"إياه، الذي لوث جدار منزلك في يوم من الأيام. ألا يعلم الأصدقاء في هيئة"الفساد"أن أولئك الذين وضعوا من أجل القبض عليهم، يقابل - معظمهم -"الله"مرة في الأسبوع على الأقل؟ وجميعهم قد تلقوا بلا استثناء معرفة دينية تتجاوز - بملايين المرات - الجرعات التي يحاول الأصدقاء - في الهيئة - إمدادهم بها في"مطوياتهم"الخيرية، بل إن البعض منهم قادر - وبطريقة مريبة - على إيصالك بأسانيد معظم الأحاديث التي تنهى عن الفساد بثقة منقطعة النظير! أو تزويدك بأرقام الصفحات التي وردت فيها هذه اللفظة في المصحف. هل هذا كل ما أعدته الهيئة، ونحن نقترب من مرور عام كامل على إنشائها؟ أن تكون آخر أخبارها أنها استقبلت مجموعة من العلماء - قبل أيام عدة - وطلبت منهم العون في تقوية الوازع الديني والأخلاقي لدى أفراد المجتمع، وتوعية وتثقيف الناس بمخاطر الفساد، وتحذيرهم من مغبته، وما وعد الله به المفسدين من عقاب! أترى سينتهي الأمر بأن نصادف اثنين من أعضائها يمسكان بتلابيب موظف حكومي ويقومان برفسه، بينما يصرخ أحدهم:"اطلع... اطللللع يالرشوة مع رجله اليمين؟"، أو أن تقوم بتوزيع علب مياه صغيرة"منفوث"فيها على مجموعة من اللجان الوطنية بهدف تقوية الذمم المالية هناك؟!"يا راجل". * كاتب سعودي. [email protected]