هناك في عالم الأوبرا حال خاصة اسمها «حال بوريس غودونوف». وهناك دائماً، ما لا يقل عن ثلاث نسخ من هذه الأوبرا التي تعتبر الأشهر - وأيضاً الأكثر اثارة للجدل - في تاريخ الفن الغنائي الروسي. انها ابداع قومي من دون أدنى شك، وليس فقط لأنها تروي، من ناحية الموضوع، واحداً من الفصول الأكثر دموية وغرابة في التاريخ الروسي، وليس فقط لأنها مقتبسة من تلك المسرحية الرائعة التي كتبها الكسندر بوشكين، بل أيضاً لأنها العلامة الأساسية على تلك النهضة الموسيقية التي عرفتها روسيا، أواسط القرن التاسع عشر على يد «جماعة الخمسة» (المجددين في الموسيقى وكان على رأسهم موسورغسكي، صاحب اوبرا «بوريس غودنوف» هذه، ورمسكي/كورساكوف صاحب واحد من أشهر التعديلات عليها). ومع هذا، على رغم أن أوبرا «بوريس غودونوف» هي الأشهر والأكثر التصاقاً بتاريخ روسيا، فإن العمل الذي يعرفه الروس ويحبونه ويفتخرون به أمام العالم، ليس هو تماماً ذاك الذي وضعه موسورغسكي، بل الآخر، المختلف الى حد كبير، الذي اشتغل عليه رمسكي/كورساكوف بعد رحيل موسورغسكي. وفي بعض الأحيان هناك آخرون يفضلون نسخة ثالثة اشتغل عليها شوستاكوفيتش، وأتت أكثر تلاؤماً مع العصر الثوري - البلشفي - الذي انتجت في رحمه. كل هذا جعل اسم موسورغسكي يرتبط دائماً بعمل لا يمكن اعتباره هو مسؤولاً عنه حقاً. ومع هذا، منذ أكثر من ثلثي القرن، وبعدما ضاعت مدوّنات نسخة موسورغسكي للأوبرا طويلاً، عثر عليها، وقدّمت في روعتها، لتدفع الى التساؤل عما جعل هذا العمل الأصيل يغيب طويلاً. غير أن هذا ليس كل ما يتعلق بهذا العمل الموسيقي - المسرحي الفذ. هناك ما هو أسوأ، فلئن كانت أوبرا «بوريس غودونوف» والمسرحية التي كانت أصلاً لها، قد بنيتا دائماً انطلاقاً من التركيز على الندم الذي يصيب بوريس إثر قتله الأمير الفتى ديمتري (ابن ايفان الرهيب) لكي يحل في العرش محله. ولئن كان هذا الندم شكل بعداً اخلاقياً ظل الروس يفخرون به طويلاً، فإن الدراسات الحديثة أتت لتؤكد لنا أن بوريس الحقيقي، عاش وحكم ومات، من دون أن يشعر بأي ندم، ما يعني هشاشة كل الأساس الذي بنيت عليه هذه الحكاية. ولكن هل حقاً، يمكن هذا ان يدمّر عملاً في مستوى أو روعة «بوريس غودنوف»؟ أبداً... لأن الكشف التاريخي أتى ليؤكد قدرة العمل الفني على أن تكون له حياته، في استقلال تام عن حقيقة جذوره التاريخية. إذ، بعد كل شيء، ليس المهم أن يكون بوريس غودنوف الحقيقي قد ندم واستغفر. فالتاريخ ولّى وأشخاصه رحلوا. المهم أن «بوريس» الأوبرا قادر على هذا، ويمارسه، تحت ملامح مغنين كبار من طينة شاليابين وإيفان بيتروف، من المغنين الذين، إذ أبدعوا دائماً في تأدية الشخصية، أكسبوها حيوية وحقيقية تؤكدان سؤال ويليام جيمس الأساس: «ترى، ما الذي يجعل الفن يتخطى أصوله ويعيش فيما الأصول التاريخية التي بني عليها تموت؟». إذاً، انطلاقاً من المسرحية التي كتبها بوشكين، متأثراً من ناحية بمسرحيات شكسبير التاريخية راغباً أن يضرب على منوالها، ومن ناحية ثانية بما رواه المؤرخ كارامازين من كتابه عن «تاريخ امبراطورية روسيا»، استقى موسورغسكي هذا الموضوع وقد سحره الندم الذي عاشه القيصر المغتصب. وهكذا، اشتغل ذلك الموسيقي المبدع، الذي كان شديد الاطلاع على الموسيقى الأوروبية، ولا سيما على أعمال فاغنر (خصوصاً «تريستان وايزولده» التي شاء أن يضاهيها في عمله هذا)، وبدّل من النظام التسلسلي للأحداث في المسرحية، إذ بعدما كانت تتألف من مقدمة (أحداث عام 1598) ومتن أساس (أحداث عام 1603) وخاتمة (أحداث عام 1604)، صارت تتألف من عشر لوحات متتالية ومتكاملة، تروي الأحداث، مركّزة على انعكاسها على الشخصيات الأساسية، ولا سيما على بوريس غودنوف الذي تبدأ الأوبرا به والشعب ينتظره ويطالب بأن يصير لروسيا قيصراً، بعد موت ايفان. وتتتابع الأحداث «المعروفة»، من وصول بوريس الى العرش، وظهور «غريغوري» (أي ديمتري المزيف المغروم بالبولونية ماري فيبشيك التي تدفعه الى تحويل «الهراطقة» الموسكوفيين من الأورثوذكسية الى الكاثوليكية)، ثم معركة البويار مع غريغوري وجنون هذا الأخير، وظهور الشبح لبوريس... الى آخر ما هناك من أحداث تاريخية تشكل متن العمل، تاركة التفسير - الخاطئ - لمحوّليه الى عمل فني. عندما كتب موسورغسكي هذه الأوبرا، في عام 1868 كان بالكاد يقترب من الثلاثين من عمره، وهو انجزها في العام التالي وقدمها الى «المسرح الامبراطوري» في سانت - بطرسبرغ. لكن المسؤولين عن هذا المسرح رفضوها، وقد صدمهم ما فيها من جرأة سياسية وفنية، على السواء، ولكن صدمهم أكثر من هذا أن هنا ثمة أوبرا ليس فيها دور بطولة نسائي ولا حبكة غرامية ولا رقصة باليه. وبعد تردد، خيل الى موسورغسكي ان شيئاً من التعديل سيمكّن العمل من ان يلقى قبولاً، فأعاد صوغ الأوبرا مضيفاً اليها فصلاً كاملاً، سمي ب «الفصل البولوني»، وأضاف خاتمة جديدة وقام ببعض التعديلات. أمام هذا، قبل المسؤولون تقديم العمل، فقدّم 26 مرة خلال سبع سنوات ثم... أُسدل الستار عليه. وظلت الأوبرا غائبة حتى وفاة صاحبها في عام 1881. وبعد ذلك ب13 عاماً أتى رمسكي/كورساكوف (الذي يعرفه الذواقة العرب من خلال قصيدتيه السيمفونيتين «شهرزاد» و «عنترة») وأجرى في عمل صاحبه تعديلات قلبته رأساً على عقب (وسيقول كثيرون انه شوّه الموسيقى وتعاقب الفصول والألحان والايقاعات وصولاً الى تشويه التوزيع الأوركسترالي نفسه). وكان من نتيجة ذلك ان دمّرت تماماً تلك العلاقة التي كان موسورغسكي أبدع في بنائها بين اللغة الموسيقية والبعد السيكولوجي للشخصيات، في نزعة انطباعية واضحة. ومع هذا حازت نسخة رمسكي/كورساكوف شعبية وصارت هي المعتمدة الى درجة انه حين شاء دياغيليف، قبل اهتمامه بالباليهات الروسية، تقديم «بوريس غودنوف» الأصلية في أوبرا باريس عام 1908، من بطولة شاليابين، لم يوافقه احد على ذلك، لأن العازفين والمغنين والكومبارس كانوا لا يحفظون سوى ما أبدعه رمسكي/ كورساكوف. غير ان هذا تبدّل منذ اعادة اكتشاف العمل الأصلي في عام 1928. ومع ذلك عادت السلطات السوفياتية وأصرت في عام 1939، على ابتكار صيغة جديدة، هي صيغة شوستاكوفيتش... غير ان هذه النسخة، على رغم اعتماد السلطات لها، لم تعش طويلاً، بل انبعثت نسخة موسورغسكي من رمادها أكثر وأكثر وصارت هي الحاضرة اليوم، معيدة الى هذا الفنان الأصيل اعتباره. ولد مودست موسورغسكي عام 1839 وبدأ يدرس العزف والتأليف منذ كان في التاسعة. أما تجاربه في كتابة الأوبرا فبدأت حين كان في الكلية العسكرية الموسيقية عام 1852. وبعد ذلك بسنوات وتحت تأثير بورودين، انضم الى جماعة من الموسيقيين المجدّدين وراح يلحن الأغنيات ويخطط لكتابة ألحان «بوريس غودنوف» عن رائعة بوشكين. وبعد رفض عمله وتعديله أُصيب موسورغسكي بشيء من الاحباط، لكنه عاد بعد سنوات واستأنف نشاطه وكتب الكثير من الأوبرات (التي لم يكتمل بعضها، مثل «سالامبو» و«أوديب في اثينا» و «دمار سنحريب»). وفي الوقت الذي أدمن الشراب وبدأ نجمه يخبو، راح يكتب بعض أعماله الأكمل مثل «صور في معرض» و«أغاني ورقصات الموت»... وهو رحل بائساً مدمناً، ولم يتجاوز الثانية والأربعين من عمره. [email protected]