طرح المفكر الفرنسي شارل سان برو في كتابه"الإسلام، مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب"عدداً من القضايا التي ربما تكون صادمة، أو على الأقل مفاجئة، لكثير ممن تعود على قراءة ما يكتبه الغربيون والمستشرقون عن الإسلام وعن السلفية تحديداً. فالكاتب لعوامل ستأتي هنا استطاع أن يتوصل لأفكار غير نسقية، وتمثِّل استثناء من قاعدة الطرح الغربي، أو المتأثر به، في المواضيع المتعلقة بالسلفية. والفكرة الأساسية في الكتاب أن السلفية هي"الإسلام الصحيح"، وهي ليست متزمتة كما يحاول أن يشيع عنها خصومها، ولا علاقة عضوية لها بالإرهاب، وأهم التحديات التي تواجهها هي التغريب والفكر المتطرف. وبين أهم ما ركز عليه الكاتب نقطتان أساسيتان: النقطة الأولى: تأكيده على الطبيعة التجديدية للسلفية، فالكتاب يقوم على فرضية أن السلفية دعوة إصلاحية تجديدية، وأن التجديد فيها نابع من طبيعة الإسلام ذاته الذي يشتمل على عوامل التجديد الذاتي. فالسلفية إنما هي تفعيل لتلك العوامل، التي تحاول الحركات التقليدية أو الحركات الثورية تعطيلها لمصالحها الخاصة. بل إن المؤلف زاد بأن حاول تلمُّس بعض الارتباط بين السلفية وبعض خصائص الحداثة ص 30-31 مع أن الشائع، وربما المسلَّم به لدى كثير من الباحثين حتى ممن تربوا في أحضان السلفية ولو جغرافياً! قد يؤكدون أن أول خصائص السلفية هي مصادمتها للحداثة. السبب في ذلك أن المؤلف نظر إلى جوهر الحداثة وفكرتها الأساسية، بينما نظر أولئك إلى"شكليات"الحداثة. ويقول في صفحة 268 موضحاً:"هي إذاً فكر تقدمي منفتح على الإصلاح، شريطة التأكيد على أن الإصلاح لا يعني الإنكار أو المجازفة أو الهرطقة، بل بالعكس، ينبغي أن يستند الإصلاح على أساس صلب..."، وينقل عن مينوريه قوله:"من المستحيل القول بأن هذا المذهب الذي طالما اتهم بنوع من الهرطقة، يمقت التفكير المستقل أو الفكر النقاد. وهذا يذكر بمقولة الإمام أحمد - رحمه الله - عندما قيل له عن أحد أصحابه إنه ينكر كذا وكذا مما يروى، فقال:"لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر". السلفية تظهر وقت الأزمات! ولذلك يؤكد المؤلف أن السلفية إنما تظهر وقت الأزمات، فهو يقول ناقلاً عن المستشرق لاوست إن الحنبلية"في كل مرحلة تأزم فكري وأخلاقي تكون الحنبلية = السلفية في أساس كل محاولة لنهضة الإسلام وتنقيته من الشوائب البدعية..."وذلك، من وجهة نظري، راجع إلى أن التجديد وإعادة البناء الذاتي المنطلق من الداخل، والذي جزء منه التخلص من ضغوط الخارج، إنما هو مكوِّن رئيسي من مكونات الحنبلية/السلفية. وفي هذا السياق يشير إلى ارتباط نهضة الإسلام وتجديده بالدور العربي ص 37، 335، وفي المقابل يؤكد الدور الفارسي في التشيُّع الغالي ص 88، 89 وما نتج منه من حركات إرهابية. ومع التأكيد على استبعاد الحس العنصري، فالمتأمل يرى أن كل حركة تجديدية انعزلت عن الطبيعة العربية الفطرية المؤطرة للإسلام ببساطته لا بد وأن تقع في شيء من النقص أو الانحراف. لماذا زهدوا في الحنبلية؟ كما أن المؤلف لا يخفي نقده للمستشرقين في موقفهم من السلفية ورموزها، وأنهم السبب في تشويه فكرها، وإضافة إلى ما يذكره عن دور المستشرق النمسوي جولدزيهر في ذلك، يقول ص 146:"وتجدر الإشارة إلى أن كل التيارات الفكرية المعادية للعرب، خصوصاً تلك التي وقعت تحت تأثير الفرس والتي لاقت رواجاً في القرن التاسع عشر مع أيديولوجيا غوبينو العنصرية الهندو- أوروبية لم تترك فرصة إلا واستغلتها في بخس مزايا المذهب الحنبلي الذي عُدَّ بمنزلة جوهر السلفية الإسلامية... ومن هنا كررت أجيال من الباحثين، الذين يتفاوتون في درجة كونهم علماء وفي درجة صدق نواياهم، الترهات نفسها حيال الحنبلية بلهجة حاسمة، بشكل أن معظمهم لم يكلف نفسه دراسة هذا العالِم الذي قد يكون الأكثر تمثيلاً للإسلام السلفي - الذي يعد مذهبه مكوِّناً جوهرياً في الثقافة الإسلامية...". ويشير إلى أن الدعاية المضادة للدعوة السلفية المعاصرة تركزت على ربطها بالعنف ووصمها بالتعصب ص 296. ويؤكد المؤلف ص 254"أن فكر محمد بن عبدالوهاب لم يشكل فرقة أيديولوجية أو عقائدية جديدة. إنه بالدرجة الأولى دعوة إلى أصول الدين الصحيحة". تاريخ الإرهاب الإسلامي النقطة الثانية: تأكيده الجازم المتكرر بعدم ارتباط السلفية بالفكر الإرهابي الخوارجي المتطرف، ونقده المتسرعين في ذلك الربط بمجرد رؤيتهم بعض النقول عن ابن تيمية أو محمد بن عبدالوهاب في كتب بعض من يتخذهم المتطرفون أئمة في العصر الحديث. فالمؤلف يقرر بشكل واضح أن الإرهاب"الإسلامي"قديماً وحديثاً ليست له علاقة بالسلفية، بل هو مرتبط بفكر الخوارج الذي عانى منه المسلمون منذ فجر الإسلام، ومرتبط بفكر مجموعات معاصرة مأزومة وموجهة أو مخترقة سياسياً. أو فكر حركات شعوبية فارسية تحديداً كانت تعمل ك"جناح مسلح"رسمياً كان أو غير رسمي لبعض الفرق البدعية. ويقول ص 200 مفصِّلاً أكثر، ومركزاً على ابن تيمية:"من هنا برزت مقولة ابن تيمية المتطرف التي يروِّج لها بعض الناشرين المعاصرين الذين لم يكلفوا أنفسهم، كما يبدو، عناء دراسة هذا المؤلف بصورة جدية، وسرعان ما صدقوا"النصوص المختزلة التي رددها أفراد أو جماعات راديكاليون بقدر ما". والواقع أن ابن تيمية كان يعاني من أتباعه المزعومين الجدد، ومن بعض المتطرفين الثوريين، ومن الهامشيين المحسوبين على الإسلام الذين يرجعون إليه مشوِّهين فكره..."، ويؤكد أيضاً ص 413 أن بعض قراء ابن تيمية من المتطرفين المعاصرين غلطوا في فهمه، بل فهموه بصورة مغايرة تماماً لما كتبه ابن تيمية، وينقل عن البروفيسور يحيى ميشو أن"هذه الانحرافات الفكرية الواضحة في فهم كلام ابن تيمية، التي - تكفي قراءة النصوص للاقتناع بذلك - لم تمنع بعض التغريبيين المتهافتين أو شبه المشككين من عد ابن تيمية أحد رواد التطرف القدماء". "الإخوان"رحم التطرف! وفي سياق مناقشته للتحديات التي تواجه السلفية في العصر الحديث، يشير إلى نقطة تساعد في تفسير وفهم كثير من الحركات المتطرفة المعاصرة، لا يتردد المؤلف في نسبة التيارات المتطرفة إلى فكر الإخوان المسلمين بتركيزه على العمل السياسي ص 388 وإن كان يرى أن الأثر المباشر كان من خلال الفرق المنشقة التي أسست للعنف ونظَّرت له. لكنه يؤكد أيضاً وجوب"التمييز بين فكر حسن البنا نفسه والتطورات المعقدة، أي تطورات الجماعة التي أسسها". كون حركة حسن البنا - رحمه الله - لم يقم عليها علماء شرعيون، لاحظه المؤلف - في إشارة ذات مغزى - بقوله ص 385:"ولم يكن حسن البنا أستاذاً أو عالماً في الأزهر، بل حائزاً على دبلوم من دار العلوم التي تأسست في نهاية القرن التاسع عشر لتشجيع التعليم الحديث..."، ويقول في هامش 1 ص 390:"تجدر الإشارة إلى أن الهضيبي المرشد العام للإخوان لم يكن علامة ولا عالماً دينياً، بل كان قاضياً تلقى إعداده في كلية القانون الفرنسي..."، ويؤكد ص 417 أن الحركة الثورية التي أسسها سيد قطب لم تضم أي مفكِّر واسع الاطلاع، وأن مسؤولي هذه الحركة في أدوارها المتعاقبة لم يكونوا متخصصين في العلم الشرعي، بل هم"مدرسون وأدباء"قطب ومهندسون شكري، وفرج، وأطباء الظواهري ورجال أعمال ابن لادن. وهي جميعها مهن شريفة لكنها لا تزوِّد صاحبها بالخبرة في الشأن الديني والفقهي. الاستثناء الوحيد الذي يؤكد القاعدة هو عمر عبدالرحمن..."، بل يؤكد في مواضع أن مرجع الحركات الثورية هو فكر سيد قطب الثوري ص 396، 410، 416. ويقول ص 425:"إن الادعاء بأن السلفية تؤدي إلى التطرف أو أنها متطرفة هو إذاً قول مغلوط. ولقد استخدم الراديكاليون المتطرفون، والثوريون الجدد - من دون وجه حق - عبارة خاصة بالسلفية السنية المستقيمة، في حين أن مراجعهم الأيديولوجية الحقيقية مختلفة تماماً". فالمؤلف يبيِّن في هذا الكتاب أن السلفية هي الإسلام كما فهمه المسلمون الأوائل، وأن ارتباط المتطرفين المعاصرين بها إنما هو دعوى قد يكون جرَّ إليها سوء الفهم منهم، وربما سوء القصد من خصومهم. خصائص السلفية حاول المؤلف شارل برو في كتابه عن السلفية بعد سبره أصولها والأطوار التي مرَّت بها، أن يحدد"خصائص الإصلاح السلفي"كما يراها. وساق ص 347 ست خصائص يتميز بها الفكر الإصلاحي السلفي وهي: العودة إلى الأصول، والرد على تحدي الغرب، ودور التربية، وفريضة الاجتهاد، ووحدة المسلمين، وتكافلهم. والحقيقة أن هذه الخصائص تنبئ عن تحليل دقيق لحركات الإصلاح السلفية، وفهم موضوعي للمبادئ التي قامت عليها. فالخاصية الأولى هي العودة للأصول، وهذا قد يكون بدهياً، وواضحاً من خلال الاسم ذاته سلفية. فالركيزة الأولى في أي حركة إصلاح سلفية تجديد هي العودة بالإسلام على مستوى تفكير الناس وممارستهم لأَصْلَي الإسلام: الكتاب والسنة. الخاصية الثانية: الرد على تحدي الغرب. فالمؤلف يرى أن هذه سمة تشترك فيها كل الحركات الإصلاحية المنتسبة للسلفية. والذي يظهر لي أن هذا وإن بدا واضحاً في العصر الحديث، لكنه ليس مقتصراً على الغرب، بل هو سمة لازمة للحركات الإصلاحية التجديدية السلفية على مرّ العصور، فهي دائماً، بحكم اعتمادها على الأصول وبحكم أن إصلاحها نابع من واعز ذاتي، تنزع إلى التخلُّص من المؤثرات الخارجية، لأنه غالباً تتعاضد في حرف التدين عن مساره الصحيح مؤثرات داخلية وأخرى خارجية. فالتعاطي مع التحديات الخارجية جزء لا يتجزأ من عملية الإصلاح. وقد رأينا هذا في وقوف أحمد بن حنبل في وجه الجهمية أهل الكلام، وفي وقوف ابن تيمية في وجه الفلاسفة ومن تابعهم من أهل الكلام. وفي العصر الحديث أخذ الفكر الغربي مساحة كبيرة من فكر التجديد. الخاصية الثالثة: دور التربية، فالحركات الإصلاحية السلفية دائماً حركات تقوم على العلم الشرعي، أو على الأقل يكون لها رافد كبير منه. بل كلما اقتربت الحركة التجديدية من السلفية زاد اعتمادها على نشر العلم الشرعي وتربية الناس عليه على مستوى الفكر وعلى مستوى السلوك. وهذا ظاهر في حركة التجديد التي قادها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إذ كان تعليم الناس ونشر الوعي و"كشف الشبهات"من أصول منهج الدعوة فيها. والسبب فيها راجع للخاصية الأولى، فمن دون العلم ومن دون رفع الوعي لدى الناس والحس النقدي، لا يمكن الرجوع للأصل. فالناس عادة يتركون أصل الدين إذا طغت العادات أو آراء البشر المحضة على الأحكام المستندة إلى الكتاب والسنة. وهذا قد يكون هو السبب في أن خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كانوا يرمونه بأنه يعد نفسه مجتهداً مطلقاً، ويشجع أتباعه على الاجتهاد، ولا يحترم العلماء! فهو يريد أن يُخرج مجتمعاً واعياً على مستوى العلم الشرعي، وهو ربما ما يعبّر عنه في أدبيات الدعوة ب"البصيرة":"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله...". والذي تميَّزت به السلفية والمنهج الأثري عموماً هو أن العلم يقصد به بالدرجة الأولى العمل، ولذلك كان العرف أن من تعلَّم شيئاً من السنن أو الأحكام حتى لو لم يكن من"العلماء" يجب عليه أو على الأقل يتوقَّع منه أن يعمل به، لأن التزكية لا تكون إلا بالعلم الصحيح والعمل الصواب. فالتربية تقوم على قاعدتين: العلم والعبادة. والمؤلف أغفل خاصية مهمة جديرة بأن تذكر، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه خاصية أساسية خصوصاً في حركات الإصلاح الحنبلية. مع اختلاف صور الأمر والنهي وأساليبه. لكن قد يكون المؤلف رأى أنها تندرج في مفهوم التربية. وهذا بشكل عام قد يكون مقبولاً. الخاصية الرابعة: فريضة الاجتهاد، والمؤلف أفردها خاصية مستقلة ربما لأنها فعلاً سمة بارزة في علماء السلفية. لكنها يمكن أن تكون مضمنة في الخصائص السابقة، أو ثمرة لها. فلا إصلاح ولا تجديد ولا يمكن التعاطي مع التحديات الفكرية الخارجية ولا يمكن ممارسة التربية بشكل صحيح إلا بممارسة الاجتهاد، فلكل عصر خصوصيته ومستجداته، ولكل مجتمع حاجاته و"نوازله"، ومن قواعد الشريعة الأساسية التيسير ونفي الحرج، فلكي يكون الإسلام حياً ومؤثراً في حياة الناس لا بد من ممارسة الاجتهاد بالرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وعلمائها. الخاصيّتان الخامسة والسادسة: وحدة المسلمين وتكافلهم، وهاتان أيضاً خاصيتان أساسيتان في دعوات الإصلاح السلفية، بحكم أن المؤمنين إخوة وأن الأمة واحدة. فهما تندرجان تحت مفهوم الأمة أو مفهوم الجماعة. وقد يكون سبب عدم ظهورهما في الدعوات السلفية المبكرة وبروزهما في العصر الحديث هو وضع المسلمين، بحكم أنهم مستضعفون في كثير من بلدان العالم، وكذلك تفرقهم في دول متشتتة. فلذا كانت الدعوة إلى التضامن والوحدة والتذكير بمصير الأمة الواحدة ظاهرة في الحركات التجديدية المعاصرة.