كيف ينجو كاتب من رصيد روائي هائل يعالج موضوعاً محدداً؟ هذا السؤال يبدو مهماً حين نقرأ رواية"السيدة من تل أبيب"للروائي ربعي المدهون، الذي استطاع من خلال نسق إبداعي وبنائي جديد أن ينفلت من هذا الرصيد، من خلال تقسيم مفهوم البطولة إلى شخصيات عدة مشدودة إلى نسق ما، فالروائي والبطل والراوي، كلها مشدودة إلى تكوين خاص، وإن كان هناك بعض الاختلافات الأيديولوجية، والاختلافات الزمنية. واستطاع أيضاً أن ينفلت من هذا الرصيد الإبداعي من خلال خلخلة بنائية مقصودة، تحتاج إلى وعي ويقظة شديدين للإلمام بأطراف الحكاية. فالرواية الأساسية، تنقسم إلى روايات عدة جزئية، ولكنها ليست جزئيات منفصلة، بل هي جزئيات متجاوبة في ما بينها، لتصنع في النهاية هذا البناء السردي البديع والمدهش، منها حكاية وليد دهمان، وظلان لبيت واحد، وحكاية موازية هي حكاية عادل البشيتي ومحبوبته ليلى دهمان، إضافة إلى أن البناء في"حكاية وليد دهمان"، تم في إطار نسق خاص من التقابل بين هو وهي، لكي يتيح لكل طرف الكشف عن وجهة نظر خاصة للذات، وللآخر في الوقت ذاته، فتشكيل الآخر في الرواية لا يتم بعيداً عن الانفتاح على تشكيل الأنا والاهتمام بتطلعاتها وإحباطاتها. يتجلى للقارئ أن الرواية تشتغل من البداية على مشروعية التعايش السلمي بين جانبين استمر صراعهما، لأكثر من ستين عاماً، وهو صراع دموي، وإن كانت الرواية في النهاية قد أفصحت بشكل لا يبقي على أي مشروعية لذلك التوجه. في إطار هذا التوجه السردي تم تشكيل ملامح البطل وليد دهمان، فلسطيني يحمل الجنسية البريطانية، يكشف الجزء الأول من الرواية عن تكوين خاص له، فقد تلقى تعليمه في القاهرة بقسم التاريخ، لأنه فشل في الالتحاق بقسم الآثار، محب للسلام والتعايش وقد كان للهوية المزدوجة والابتعاد عن موطنه غزة أثر كبير، في تشكيل وتمرير هذا التوجه بالتدريج، لا لكونه لم يعاين العذاب والفقد، وتعطيل الحقوق الإنسانية التي تهدر يومياً، وإنما لانفتاحه على سياقات إنسانية في التعامل مع الآخر. ولكن هذا التوجه نحو جزئية مشروعية التعايش السلمي، لا يخلو في الرواية من ميراث طويل يدفع للتشكك، ولبقاء صورة الصراع، والرسم النمطي للآخر، كما في قوله عن رجل يهودي قابله في المترو في لندن"لحيته مثل لحية التيس الذي رباه جدي يوماً"أو من خلال تأمل الهواجس التي اعتملت بداخله حين جلست دانا أهوفا الممثلة الإسرائيلية بجواره. على الجانب الآخر تتشكل ملامح دانا أهوفا، ممثلة إسرائيلية تعشق أميراً عربياً بشكل سري، وكأن هذا العشق دعوة للتعايش السلمي وإيذان بمشروعيته، يسارية مفرطة في يساريتها، متهمة من الجانبين، فهي - لدى الجانب العربي ? جاسوسة استطاعت أن توقع بأميرعربي، ولدى الجانب الإسرائيلي متهمة بالتخلي عن يهوديتها والارتباط بالأغيار. ولم تخرج الحكاية الموازية عن هذا النسق الدلالي، فصديقة البطل ليا بورتمان، تدور في الإطار ذاته، وإن كان الشك في تحقيق ذلك موجوداً، يتجلى ذلك في ردها على اقتراح سفرها مع وليد دهمان سوياً"أووه وليد معاً،لا أكاد أتصور ذلك أبداً". إن اختيار البطل وليد دهمان بوصفه شخصاً من أصحاب الهوية المزدوجة، يؤيد مشروعية ذلك التوجه في مقاربة الرواية، إذ يتأثر هؤلاء - بعيداً عن موطن الصراع ? بدعوات التوجه الإنساني، ومن ثم تخف حدة الصراع، يؤيد ذلك سؤال وليد دهمان عن ارتباطه بالأرض"هل فعلاً ما زلنا ننتمي إليها؟"، فقلق الهوية فاعل في إطار تثبيت ذلك التوجه، إضافة إلى الدلالات التي تتيحها الرواية التي يظل قارئاً لها في رحلته إلى غزة العرس الوحشي للكاتب الفرنسي ليان كيفيلك، ففي هذه الرواية هناك لودفيك الصغير وأمه نيكول، التي اغتصبها البحارة الأميركيون، واعتبروا ذلك انتصاراً أميركياً، يؤيد ذلك الترابط المفضي إلى قلق الهوية لأصحاب الهويات المزدوجة، قول الراوي بعد سرد جزء من الرواية الفرنسية حقاً من أين أنا؟ إن رواية"السيدة من تل أبيب"هي رواية التوازيات العديدة، التي لا تشير إلى التطابق العام بين مستويات وشخصيات عدة، وإنما تشير أيضاً إلى اختلافات لها وجودها الملموس. التوازي الأول يمكن أن يلحظه القارئ بين وليد دهمان وعادل البشيتي من جانب، ومن جانب آخر التوازي بين دانا أهوفا وإرنة كتساف. وهذا التوازي يرتبط بطبيعة العلاقة بين هو العربي الفلسطيني صاحب الهوية المزدوجة، وهي اليهودية، وما تضيفه طبيعة كل شخصية، ووجهة نظر كل طرف. فالرواية في وصفها لآرنة عصبية المزاج، وكان نقاشها يتأرجح يميناً ويساراً، تقف في الوسط أحياناً، لكنها سرعان ما تغادر موقعها، وهذا الوصف يباين طبيعة الصورة المقدمة لدانا أهوفا. يتجلى التوازي ? محدثاً نوعاً من المفارقة ? في الطريقة التي تم التعامل بها مع البطل في طريقه إلى العودة إلى بلده، فعادل البشيتي تم تفتيشه، وتم التحقيق معه للكشف عن طبقات ذاكرته القريبة والبعيدة، ولكن هذا النسق لم يتم مع وليد دهمان. ثمة توازٍ آخر يتم في إطار معاينة الاتجاه اليميني لدى كل طرف، وهذا الاتجاه لا يتم بشكل مباشر وصريح، وإنما يتجلى كأنه ظل موجود في الخلفية، يترك أثره في تفكير وعقل كل شخصية من الشخصيات، من خلال الإحساس دائماً بأنها موضوعة في بؤرة الرصد من آخرين، كما حدث مع دانا أهوفا، في حديثها مع شخصية نسائية فاعلة تكشف لها عن أن حركاتها في روما أو لندن مرصودة من داخل إسرائيل. وعلى الجانب الآخر يتجلى وجود ذلك الاتجاه اليميني، في الصراع الحاد بين الأفراد، الذين يحيطون بوليد دهمان، وتوزع انتماء كل واحد منهم بين"فتح"و"حماس". يأتي التوازي الأخير ممثلاً في بناء الرواية، فالرواية لا تبنى ? كما أشرنا سابقاً ? على نمط بنائي موحد، فهي تبدأ بحكاية وليد دهمان، وهذا الجزء يأتي وكأنه يمثل خلفية مهمة وضرورية، لكي يدرك القارئ أولاً حجم المغايرة بين السابق والآني، وبين فاعلية هذا التكوين، وهشاشته في الوقت ذاته. ولكن بداية من الصفحة 45 يطالع القارئ غلافاً داخلياً، كتب عليه السيدة من تل أبيب، إضافة إلى الإشارة التجنيسية بوضع كلمة رواية في أعلى الصفحة. وثمة مغايرة بنائية تتمثل في تغير الضمير السردي من الغياب إلى المتكلم الذي وزع على قسمين هو وهي، وكأننا أمام رواية لصوتين يقاربان أحداثاً واحدة، هذا التوجه يكفل لكل صوت التعبير عن ذاته أولاً، بآمالها وإحباطاتها ومخاوفها ورؤيتها للآخر، وتفسيراً لردود أفعاله ثانية. ويستمر هذا النسق المتوازي بين هو وهي، حتى الوصول إلى مطار بن جوريون، لتبدأ رواية أخرى"ظلان لبيت واحد"ويستمر الصوتان فاعلين حتى نهاية هذه الرواية الداخلية، ويأتي بعد ذلك الجزء الأخير الخاص بحكاية وليد دهمان مع أمه وأهله، ليأتي صوت الراوي في النهاية ليكشف لنا مدى إمكانية ومشروعية ذلك التعايش السلمي، الذي تطرحه الرواية بشكل واضح، من خلال توجيهات سردية محددة. من هذه التوجيهات السردية، قصة الحب بين الأمير العربي ودانا أهوفا، إضافة إلى الصداقة المعقودة بين وليد دهمان ودانا أهوفا، وكذلك الصداقة بين عادل البشيتي وآرنة كتساف، ولكن الفاعلية في ذلك السياق تأتي من خلال قول دانا أهوفا"المشكلة في السياسيين عندنا وعندكم"، وتأتي النتيجة واضحة من خلال توحّد كل واحد منهما في إطاره الفكري، فعادل البشيتي بحث عن رابط يشده للأرض ممثلاً في ليلى دهمان، محبوبته الأثيرة، التي قد تعطي في إطار التأويل مدى دلالياً واسعاً، يخرج بها عن نطاقها الإنساني المحدود. يتجلى ذلك ? أيضاً - من خلال مقتل دانا أهوفا في شقتها، ولم تفصح الرواية عن القاتل، هل الموساد الإسرائيلي؟ هل قتلها أحد المرافقين للأمير العربي؟ واختيار واحد من الاحتمالين له مشروعيته الكاملة. إن رواية"السيدة من تل أبيب"، رواية تحاول حفر تميزها بعيداً عن السائد والمقرر، من خلال مساءلة فرضية التعايش السلمي، من خلال فلسطيني مزدوج الجنسية، ولكنها تقرر في النهاية أن هذا الحق ليس حقاً فردياً، وإنما هو حق تقرره كل الأطياف، التي تأثرت بالقمع والترويع والبطش، وتهشم في النهاية مشروعية دور الحب في التقريب بين طرفين متقابلين ومتضادين، من خلال الإجابة عن السؤال الآتي: هل يفلح الحب في القضاء على صراع قوامه خمس حروب دامية؟ ولكن هذا التوجه الفكري، الذي أشرنا إليه بأنه القيمة الفاعلة في الرواية، لم يؤثر في تقديم رؤية واضحة وجلية للموجود فعلاً، فلم يطمس هذا التوجه الحقيقة الفعلية في محاولات التهويد، والقمع، وإهدار الكرامة الإنسانية، التي يتعرض لها الفلسطينيون، سواء أكانوا بشراً عاديين، أم كانوا من الشخصيات المهمة، الذين يحملون جنسيات أوروبية. ولم يطمس هذا التوجه أيضاً أننا أمام مجتمع فلسطيني، له خصوصية في التقاليد الاجتماعية والمعتقدات المرتبطة بالأساطير، والحكايات الليلية، والإشاعات، والتهامس الذي يصل إلى حد اليقين، في مقاربة التفتت، في ظل قيادات عدة متنافرة. * ناقد وأكاديمي مصري.