يتحدث المفكر المعروف العفيف الأخضر في مقالٍ مهم له عن عوائق ثقافية جمة تزيلها مادة الفلسفة، عندما تدخل مناهجنا التعليمية العربية وقد أجملها في خمسة عوائق، أذكر منها: عائق العجز عن ممارسة النقد الذاتي وتقبل النقد بصدرٍ رحب، وهذه الفعالية العقلية من أهم البراعات - في نظري - التي يخلقها فعل التفلسف وينميها في الممارسات الذهنية اليومية. كما تحدث عن فعاليتها في إزالة عائق سلطة النقل - هيمنة النص التي تعودنا عليها في أحاديثنا العامة المتداولة أو حتى تلك المتخصصة والمؤدلجة"قال الله وقال الرسول وكفى الله المؤمنين شر تشغيل العقول". ومن ضمن ما أشار إليه أيضاً العفيف، عائق التهافت المنطقي، بمعنى التسليم بالمقدمات الفاسدة والاعتراض على نتائجها الضرورية، وهذه واحدة من أهم المسائل العقلية الشائكة التي عالجتها الفلسفة منذ أسبينوزا في أطروحته عن اللاهوت والسياسة، وعلى امتداد مسارها التاريخي وتراكمها المعرفي وهو ما نلمسه من نتائج كارثية أفرزتها ممارسات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وتصادم منطقه التناقضي مع المختلف معه وتهافتات مقدماته الأصولية المنغلقة بما تركته من آثار ونتائج مدمرة على واقعه تاريخاً وإنساناً. أما أنا فأتحدث هنا عن صعوبات وعوائق بنيوية عقلية أخرى ? في الحقيقة - تقف حائلاً أمام التعليم الفلسفي المقترح الذي يروم إزالة تلك العوائق الثقافية التي تحدث عنها الأخضر. وإذ كنت أستعرض في ذهني بعض هذه الصعوبات وجدتني أستعيد ما سمعته ذات مساء من أحد مشايخنا الأفاضل، متحدثاً في إحدى الفضائيات عن الشخصية الإسلامية:"مناقبها... وصفاتها... وواجباتها... الخ". الرسالة التي أراد أن يبثها شيخنا الفاضل هي أن على الشخصية الإسلامية، أن تبتعد عن شبهة التفلسف وعن إلحاحات السؤال المعرفي التأملي في الوجود والمصير والمستقبل والسكوت عنه، الذي ? في نظره - لا طائل من ورائه. بل على الشخصية الإسلامية أن تنبذ هذا التمرين العقلي والنظر الفكري، حتى في ما أتى به الفلاسفة العرب الأولون، خصوصاً إن الحقيقة الدينية والحقيقة الدنيوية على السواء مكتملتان، ناجزتان واضحتان في نظره، متوقفاً عند ما توصل إليه أبوحامد الغزالي في كتابه"تهافت الفلاسفة"من تشكيكات وتكفيرات للفلاسفة والمدارس الفلسفية التي سبقته وعاصرها في آن. شيخنا الفاضل بعد ألف عام من تهافتات الغزالي في تكفير الفلاسفة، ما زال ينسف كل التاريخ الفلسفي الإسلامي والكوني، منكراً المنجز الفلسفي العربي كله، بدءاً من الإرهاصات التأملية الأولى للمتكلمين والمتصوفين، مروراً بفلسفات المشرقيين من أمثال: الكندي والفارابي وابن سينا وأبوبكر الرازي وفلسفات المغربيين العرب من أمثال: ابن رشد وابن باجة وابن طفيل. متناسياً أن كل هؤلاء خرجوا من البيئة الإسلامية ذاتها، وتشبعوا بمفاهيم ومقاصد الشريعة، وخاضوا الصراع الفكري المحتدم آنذاك بعقلية رفيعة ومتعددة، مؤمنة بالاختلاف والمغايرة وقد تعاطوا التفلسف ومارسوه، بل أنتجوا مفاهيمهم العقلية وتصوراتهم لإشكالات هذا الصراع في توازنٍ دقيق، بين الروحانيات والماديات، واستفادوا من استنتاجاتهم الفلسفية، في تحقيق التوفيق والاتساق بين مفهومي الإيمان القلبي والنظر العقلي"التدبر"، كما توصل إليه فيلسوفنا ابن رشد في أطروحته الفلسفية الشهيرة"فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من اتصال". ولم يكن في ما أنتجه فلاسفتنا العرب من شذوذٍ أو تناقضٍ مع مفهوم العقل، في ما يتدبره من مقاصد الشريعة وغاياتها ورسالتها الأخلاقية، بل كان نتاجهم تأكيداً وتعميقاً لأسسها الجوهرية وتحريرها للإنسان، من عبودية الإنسان روحاً وجسداً. وكان تأثير ابن رشد عظيماً في فلسفة أوروبا الوسيطة فترك بصماته واضحة، على صيرورة الحضارة البشرية وانطلاقاتها العقلانية الجديدة وخروج أوروبا من ظلمات الاستبداد الكنسي، وذلك بشهادة الغرب نفسه واعترافات بعض فلاسفته ومفكريه، خلافاً لما يقوله بعضنا وبعضهم من أن مجهودات ابن رشد لم تتجاوز الشروحات لفلسفة أرسطو وأفلاطون، وهي بضاعة فكرية غربية ردت إليهم، ومهما كان هذا الحكم التاريخي جارحاً وغير منصفٍ فلا ضير، مادام ابن رشد كان حلقة وسطاً بين حقبتين عقليتين انحشرت بينهما لزمنٍ طويل كتلة من الظلام الفكري الدامس، فكانت جهود ابن رشد الفذة استئنافاً فلسفياً عبقرياً وحلقة اتصال بين نتاجين فلسفيين أوروبيين، رممه ابن رشد بجسرٍ فكري إسلامي عقلاني التوجّه فأعاد لحمتهما من جديد. تذكر الدكتورة زينب محمود الخضيري في كتابها القيم:"أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى"أن"الفلسفة عند ابن رشد هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالاتها على الصانع، وقد دعا الإسلام إلى التفلسف لأن الفلسفة وسيلة الإنسان لمعرفة الله حق المعرفة بالعقل، وأكد ابن رشد أن من ينهي الناس عنها فقد صدهم عن الباب الذي دعا الشرع الناس إلى معرفة الله منه" فمن نصدق؟...ابن رشد العالم والفقيه والقاضي والفيلسوف أم شيخنا الفاضل؟ ما قاله شيخنا حول لا فائدة من التفلسف والفلسفة، يدل على مدى الفجوة المعرفية والغيبوبة العقلية التي مازالت تتسع في مدارات تصوراتنا تسندها بعض الأوهام الأيديولوجية من أن السؤال الفلسفي - التفلسف إنما هو سؤال تشكيكي في قضايا السماء والغيبيات، وفي معنى الوجود الميتافيزيقي والعناصر المكونة لهذا الوجود، فمن هنا اعتبرت هذه المنطقة من التفكير بعد مجيء الإسلام من المناطق المحظورة على العقل المسلم، بل عد الاقتراب منها شبهة عقلية وتجديفاً في مسلمات الإلوهية. ونحن نعلم عبر قراءة صحيحة للتاريخ الفلسفي ومنجزه بأن السؤال الفلسفي قد غادر السماء إلى الأرض منذ زمن طويل، أي أن الفلسفة قد أنزلت إلى الأرض لتبحث في قضايا المصير البشري وإشكالات التطور العلمي ومصائره وعلائقه الإنسانية بالكيفيات والتوازنات التي حافظت على روح القيم العقلانية والإنسانية، في موازاة التحدي العلمي الجديد وثوراته التقنية واكتساحاته المبدعة. تلك واحدة من الصعوبات الكأداء ? كما أراها - التي ستواجه توطين التعليم الفلسفي في مناهجنا وستبقى في نظري حائلاً منيعاً دون إنجاز هذه المهمة الحضارية ما لم تتضافر ثلاثة قراراتٍ معاً: القرار السياسي والقرار التنموي مضافان إلى القرار التربوي في تحقيق شرعية موضوعية وحضارية ملحّة لأحداث هذا التدامج في منهجنا التعليمي. هناك صعوبة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، وهي أن المنهج التعليمي لدينا حتى الآن لا ينظر إلى العملية التعليمية في سياق الحاجة الموضوعية والاقتصادية التي تشرئب إليها اللحظة المعاشة تنموياً بوشائجها الكونية معرفياً وعلمياً، بل ينظر إليها كما في خططها الحالية والمستقبلية في سياق الحاجة الأيديولوجية والتكريس المفاهيمي وتعميق اليقينيات و"الثوابت"التي تخدم الطبقة السياسية وما يلتحف بها من مؤسسات وسلطات رمزية أخرى تكريساً لهيمنتها وآليات عملها. أما الصعوبة الثالثة فأجدها ? في الحقيقة - تتمثل في الاتجاه العاطفي الوجداني المستشري في المجتمع، وفي طريقة النظر إلى الأمور ومسألة التغييرات المطلوبة وذلك الشحن العاطفي اللاعقلاني، الذي تمتلئ به أفعالنا وتقديراتنا وأحكامنا في المجالات السياسية والاجتماعية، إما بطريقة انفعالية شديدة التطرف في عاطفتها أو مصعدة في بعدها الشخصي والفرداني... وقد تسقط في طائفيتها أو قبائليتها في كثيرٍ من تمظهراتها، هذه النزوعات اللاعلمية المتغلغلة والمسيطرة بشكلٍ بيّن في حركة المجتمع، كينونته، صيرورته الحضارية وأفق تغييره تقف عائقاً آخر في تبيئة التعليم الفلسفي وتسريع وتيرته في عقول أجيالنا المعاصرة وإزاحة الريبية أو الشكية عن دلالات فعل التفلسف وأهمية انتقاله إليى سياقات استقلاله وحريات اشتغالاته، وبالتالي إرساء وإنجاز عقلية علمية متحولة من مراكزها مؤسسات إنتاجها إلى أطرافها المحيطة النسيج المجتمعي برمته. ناقد وأديب.