يصدم المجتمع السعودي بين حين وآخر بحالات عنف أسري يروح ضحيتها أبرياء يدرجون في قوائم امتلأت بها سجلات الشرطة وجمعية حقوق الإنسان، التي بدأت تدون في سجلاتها معدلات عالية لتلك"الجرائم الأسرية"خلال السنوات الخمس الأخيرة. ليست أولى تلك القضايا ولا آخرها، حادثة إقدام أب أخيراً على مطاردة ابنه بسيارته ودهسه في محافظة محايل عسير، بعد حصول الابن على درجات متدنية في معدله الدراسي، لكن قسوة الأب أدخلته غرفة العناية المركزة، بدلاً من أن تساعده على تصحيح مساره الدراسي، واجتياز الصعوبات التي يواجهها. لم يجد هذا الأب مبرراً أثناء استجوابه من قبل السلطات الأمنية، سوى تأكيد أنه لم يكن ينوي دهس ابنه بالسيارة أثناء مطاردته، وإنما كان يسعى لإخافته وتهديده بسبب تراخيه وإهماله الدراسي، وحصوله على معدل متدن، مشيراً إلى أن ابنه كان يجري بسرعة كبيرة أمام السيارة المسرعة هي الأخرى، فسقط تحت عجلاتها. هذه القضية التي نشرت أخيراً ليست سوى مثال"يتيم"على كم"جرائم عنف"يرتكبها أولياء أمور في حق أبنائهم، منها ما ظهر على سطح الأحداث عبر وسائل الإعلام، وأخرى لا تزال حبيسة جدران"المعتقلات الأسرية"، وتنتهي بهم في كثير من الحالات إما إلى حتفهم، أو تلحق بهم عاهات جسدية مستديمة، أو أضرار نفسية لا نستطيع أن نراها بالعين المجردة، لكنها تنهش في عمق آدمية الضحية، وقد تقود إلى ردات فعل لا تحمد عقباها"إذ إن لكل فعل ردة فعل"، منها الانتقام الوحشي من أفراد الأسرة أو المجتمع. يقول الباحث الاجتماعي في مركز الرعاية الأسرية عبدالعزيز بن عبدالرحمن المناع ل"الحياة":"لقد كان مجتمعنا في منأى ومعزل عن مثل هذه الظواهر الدخيلة، أما الآن فقد تبدل الحال كثيراً، فلا يمر يوم إلا وتطالعنا وسائل الإعلام بالكثير من حوادث العنف الأسري التي اغتالت براءة الصغار والكبار على حد سواء، بأيدي آبائهم أو أحد أفراد أسرهم". وأضاف:"إن الأمر مخيف، لاسيما وأن وسائل العنف المستخدمة تختلف من حالة لأخرى، لتصل إلى حد القتل والحرق والضرب والخنق والتسميم بالأدوية والمواد الكيماوية، وابتكر كل منهم طريقته الخاصة في التعذيب، وبات الأب والأم اللذان يمثلان أسمى معاني الرحمة والإنسانية يتصدران رأس القائمة لأكثر الأفراد عنفاً وعدوانية داخل الحظيرة الأسرية". وأكد المناع أن غالبية جرائم العنف الأسري التي يرتكبها الآباء في حق أبنائهم منشأها نوازع عدوانية وإجرامية متأصلة في نفوسهم الشريرة، ويتضح ذلك خلال استجوابهم من قبل السلطات الأمنية، أو بالكشف عليهم داخل المصحات النفسية لمعرفة مدى سلامة قواهم العقلية والنفسية. وأشار الباحث الاجتماعي إلى أن دراسة اجتماعية حديثة كشفت أن قمع الأبناء وتعنيفهم من قبل الوالدين أو أحد أفراد أسرهم يؤدي إلى انحرافهم لاحقاً، وأن غالبية المجرمين والمنحرفين كانوا مضطهدين أسرياً في طفولتهم". كما أوضحت الدراسة أن الاستقرار النفسي للفرد في مراحل طفولته المبكرة يلعب دوراً مهماً ومؤثراً في بناء شخصيته وسلوكه، وأن درجة الانحراف لدى الأفراد غير الأسوياء تقاس بما تلقوه في طفولتهم من قسوة وتعذيب واضطهاد، وقال:"كم أحزنني ما قرأته عن قيام أحد الآباء بمطاردة ابنه بالسيارة ودهسه تحت عجلاتها بسبب أمر طبيعي كان بالإمكان علاجه بطرق تربوية وحضارية تتلاءم مع آدمية الابن". وأعربت الناشطة الحقوقية سمر مصطفى عز الدين ل"الحياة"عن استيائها الشديد حول هذه الحادثة الغريبة والشاذة في طريقتها ونوعيتها، والتي ارتكبها ذلك الأب القاسي في حق ابنه المراهق بسبب قصوره الدراسي، مضيفة:"حتى وإن كانت حادثة الدهس غير مقصوده، فيكفي ما أثاره الأب من خوف وهلع داخل نفس ابنه، وهذا بحد ذاته يعتبر عنفاً يحاسب عليه القانون والنظام". وأكدت عز الدين ضرورة مجازاة الأب باعتبار ما قام به عنفاً أسرياً، وشروعاً في القتل، مشيرة إلى أهمية تخصيص محاكم شرعية مستقلة للعنف الأسري، من أجل البت في مثل هذه القضايا بصورة مستعجلة، بدلاً من طول النظر فيها والتأجيل لأسباب إجرائية"لأنها قضايا تتعلق بفلذات الأكباد الذين تزداد مساحة الخطر حولهم يوماً بعد آخر". وأضافت:"إن مثل هذه الحوادث المؤلمة يجب ألا تمر بسلام، بل يجب أن يتعرض الأب وغيره من الآباء المسيئين لأبنائهم للجزاء الرادع الذي يستحقونه، ويجب أن نتصدى بكل طاقتنا وإمكاناتنا لحالات العنف الأسري ضد الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، حتى لا تتكرر مثل حوادث العنف هذه في مجتمعنا".