أذاعت معظم وكالات الأنباء العالمية يوم 27 - 5 - 2008 نبأ هبوط المركبة الأميركية"فونيكس"على سطح المريخ، لاكتشاف إمكان وجود حياة على سطحه، فانبرى بعض رجال الدين المسيحي من الكاثوليك المتعصبين في بعض الدول الأوروبية لانتقاد مثل هذا التطور العلمي - كما حصل في قضية الاستنساخ - بحجة أن هذا العمل يتعارض مع مفهوم"ألوهية"المسيح"عليه السلام"على الأرض، وباستحالة وجود مخلوقات أخرى على سطح الأرض، كما ورد في التوراة والإنجيل. إن هذا الاعتقاد يدعونا إلى زيادة الإيمان بأن القرآن الكريم إنما هو كلام الله تعالى، وأن الاكتشافات التي نلمسها الآن تؤكد إعجازه بخلاف الكتب السماوية الأخرى، فقد بدأ وحي القرآن الكريم بكلمة أقرأ فهي أول كلمة سمعها الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل"عليه السلام"، وجاء من بعدها ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ فكلمة الوحي الأولى، وهذا القسم وضعا حجر الأساس في بناء صرح العلم والمعارف التي شيدها المسلمون، فكانوا - بفضل الله عز وجل - عليهم، بعد الأمية مرجع الثقافة في العالم إلى يومنا هذا، على رغم تخلفنا المعاصر عن صناعات أوروبا والدول الصناعية بشكل عام، وما تسمية تقنية، ذلك لما يتميز به العرب خصوصاً، والمسلمون عموماً من اتخاذ العلم هدفاً في حياتهم، ومبدأ لهم يصلهم بربهم من دنياهم إلى آخرتهم على صراط مستقيم، ويمتد زمنهم في اكتساب العلم وخدمته من المهد إلى اللحد، فاخلصوا للعلم وخلفوا وراءهم في أقطار المسلمين أعظم تراث علمي للبشرية. وما زال الغرب عن طريق كنائسه ومتاحفه ومستشرقيه الذين يتصيدون كتب التراث الإسلامي ليعتصروها، يرون ما سبق إليه المسلمون من المعارف في مختلف العلوم والفنون، النظرية والتطبيقية والفنية، لهذا كان للعلوم التي ننعتها اليوم بالعلوم الحديثة - كالطب والفلك والطبيعة والهندسة وغيرها - حظ كبير ونصيب وافر من الحضارة الإسلامية خلال عظمتها وازدهارها، ونبغ في هذه العلوم كثرة من العلماء أسدوا إلى العلم والبشرية والحضارة أيادي بيضاء لا ينكرها إلا جاحد ظالم، ومن هؤلاء العلماء: جابر بن حيان، وأبو القاسم الجريطي - نسبة إلى مدريد - في الكيمياء، وأبو بكر الرازي، وابن سينا في الطب، وابن الهيثم، وكمال الدين الفارسي في الطبيعة، وابن البيطار، ورشيد الدين الصوري في النبات والأدوية، ومحمد ابن موسى الخوارزمي، وثابت بن قرة في الرياضيات والفلك، وغيرهم كثير ممن امتلأت الكتب بذكر مؤلفاتهم، وما أضافوه للعلم من إضافات قيمة اعترف بها المنصفون من علماء الغرب ومفكريه الذين أقروا بما كان للديانة الإسلامية من فضل في الحفاظ على تراث الأمم القديمة، وما أضافوه إلى هذا التراث من ثمار عقولهم، وتفكيرهم وابتكارهم، ثم انتقل هذا التراث إلى الأوروبيين عن طريق الأندلس وصقلية وغيرهما، فكان رافداً من الروافد التي كونت الحضارة الحديثة... إن معظم العلوم التي نعتقد أن الغرب تقدم بها علينا إنما هي مستبقة من علومنا الإسلامية منذ عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وما تلاه من العهود. قال الفيلسوف الاجتماعي الشهري جوستاف لوبون في كتابه"حضارة العرب":"إن دور العرب لم يقتصر فقط على ترقية العلوم باكتشافاتهم، بل عملوا على نشرها بواسطة جامعاتهم وبواسطة مؤلفاتهم، إن التأثير الذي أحدثوه في أوروبا من هذه الناحية كان عظيماً جداً". إن منهج القرآن الحكيم يحض على العلم، والتعلّم، ويبين مكانة العلم في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وفي قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وإن الإسلام لم يعرف اضطهاداً للعلم والعلماء في تاريخه، بل كان الدافع إلى العلم، والتعليم والتدبر، لذا كان معظم العلماء المسلمين علماء بدينهم أيضا، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء، وقد صدّق بذلك العالم الفيزيائي الشهري اينشتاين حين قال:"إن القليل من العلم يجعلنا نبتعد عن الدين، بقدر ما يجعلنا الكثير منه أكثر تديناً"... والمقصود هنا ليس مقارنة قوله تعالى بقول بشر، - حاشا لله جل جلاله وتقدس - ولكن المراد هو وصول شخص غير مسلم إلى حقيقة أثبتها القرآن قبل أربعة عشر قرناً، فالأكثر علماً وعملاً هو الأكثر خشية من الله، فعندما يرى العالم هول فساحة هذا الكون العظيم ينتابه إحساس بالضعف والفقر العلمي، إذ لا يكاد ينتهي من مسألة إلا وتواجهه أخرى، ما يؤدي به إلى اليقين بوجود من هو أعلم منه وهو الخلاق العليم، كما صرح جيمس أروني، قائد رحلة"أبولو 15"بعد عودته إلى الأرض بقوله:"لقد أدى نزولي على سطح القمر إلى زيادة إيماني بالله، وزادت العقيدة الدينية عمقاً في نفسي، لقد شعرت بوجود الله وازداد إيماني بوجوده". أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن شخصية المسلم لا تكتمل من دون العلم بقوله:"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر". فالعلم فريضة على المسلمين جمعياً لقوله صلى الله عليه وسلم"طلب العلم فريضة على كل مسلم". جاءت آيات القرآن دالة على آيات الأكوان، ولا نرى سورة في القرآن الحكيم لا تجمع بين هذين النوعين، وحسبنا من إجمال ذلك كبرهان قوله تعالى: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى. فالقرآن الكريم يطابق العلم، أو يوافق العلوم بشتى أنواعها بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، وقد أسلم العديد من علماء النصارى في العصر الحديث نتيجة أبحاثهم وتفكرهم بآيات الله... ففي الآفاق عاد أول رائد فضاء في التاريخ"يوري جاجارين"ليقول للناس عند سؤالهم له: ماذا وجدت؟ فقالالله يقصد قدرته تعالى وكان تصريحه هذا سبباً لمصرعه لما كان عليه الحكم في ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي. إن معجزة القرآن الكريم العلمية تظهر لأهل العلم في الوقت الحاضر في كل مجال من مجالاته، فقد أنبأ القرآن الحكيم عن هذه الكشوف العلمية منذ أنزله الله تعالى قبل أربعة عشر قرناً لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، فمثلاً أخبر القرآن عن حركة الشمس والقمر وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ، والتساؤل هنا: كيف تخدم الشمس الإنسان والحيوان والنبات على السواء؟ إن فائدة الشمس لمخلوقات الله عز وجل لا تُعد ولا تُحصى، ويصعب شرحها في هذا المقال الموجز. لقد جعل تعالى الضوء والحرارة التي تنبعث من الشمس بمقدار في قوله: إن كل شيء خلقناه بقدر، فلو زادت الحرارة لأحرقت كل ما على الأرض، ولو زادت البرودة لجمد ما في الأرض كذلك، فالمسافة بين الشمس والأرض إنما هي بحسبان وليست مصادفة. * باحث في الشؤون الإسلامية.