قبل خمسة وعشرين عاماً كنت حينها أعمل في مجلة متخصصة في مجال العمارة، وزارنا في مقر المجلة معماري من جيل المعماري المصري الشهير حسن فتحي، وأخذته بسيارتي في جولة على معالم مدينة الرياض آنذاك، مررت أولاً بشارع الستين"صلاح الدين الأيوبي حالياً"، وعندما شاهد بناية زجاجية ترمي بأشعة الشمس على رؤوس المارة تبسم المعماري الضيف، وعلى الفور سألته ما الذي زرع الابتسامة على شفتيك؟ أجابني بصوت خافت يناسب خبرته وكبر سنه: يا بني العمارة تُخلق ولا تصنع! قلت له: على الفور أنا لست مهندساً معمارياً أرجوك وضح ماذا يعنى ذلك؟ رد قائلاً: العمارة تُخلق من ثقافة وهوية وتراث الدولة أو المدينة أو المنطقة ومن عمقها التاريخي مع مراعاة ظروفها المكانية والمناخية وطبيعتها الجغرافية، أما ما رأيته في هذه العمارة فهي صناعة لا تتناسب مع ما أعرفه عن ظروف وطبيعة وتراث وثقافة هذه المدينة. أطرق قلبي وتجاهلت تعليقه واتجهت مسرعاً إلى مشروع منطقة قصر الحكم، في قلب مدينة الرياض، وعندما وصلت إلى الموقع قلت له: هذا مشروع كبير وضخم لتطوير منطقة قصر الحكم بالرياض، والمناطق المركزية المحيطة به. قال: نعم أعرف هذا المشروع وقرأت عن كل تفاصيله التي نُشرت بمجلة"البناء المعمارية"، إنه مشروع تنطبق عليه جميع مواصفات العمارة المخلوقة التي حدثتك عنها، لقد صمم من فكر معماري عميق ينسجم مع التطوير الحديث بثقافة معمارية متأصلة، محافظة على الإرث المعماري والثقافي لهذه المدينة، ومنسجم أيضاً مع الظروف الطبيعية للمدينة، إنه مشروع يستحق جائزة"الأغا خان"العالمية للعمارة. فهمت حينها ما كان يقصده هذا المهندس المعماري المتطلع إلى الحفاظ على الهوية المعمارية مع تطوير لا يخل بثوابت العمارة وفنونها لكل مدينة ومنطقة ودولة. رسخ في ذهني هذا الفكر وهذه المدرسة المعمارية، وأصبحت أرى المدن بعيونها، وعندما زرت قبل أشهر مدينة عربية ذاع صيتها بسرعة تطورها، كان حديثي مع صاحبي في السفر لهذه المدينة، من هذا المنطلق، وجرى بيني وبينه حوار طويل حول ما يعجبني من العمارة وما لا يبهرني منها. قلت له: أنا لا تبهرني العمارة التي تختطف المدينة، فالإنسان يزهو بماضيه وحاضره، وهكذا يكون مستقبله، وعندما تختطفه قشور الحضارة في هذا العصر يضيع عمقه ويفقد هويته التي تشيد ثقافته حاضراً ومستقبلاً، والمدينة مثل الإنسان تفخر وتزهو بتاريخها وهويتها وثقافتها وأزقتها التي يحن إليها الباحثون والمبدعون، ومدونو التاريخ، وعندما تتحول الأزقة إلى مصفحات أسمنتية أو زجاجية فإن هذه عمارة مصنوعة فاقدة للهوية والإرث المعماري الذي من المفترض أن يكون هو الأساس للتطوير والتحديث، وعندما سألني صاحبي عن أسباب البعد عن الثقافة المعمارية المتأصلة والممتدة من التراث والفكر المعماري في بعض الدول العربية مثل مدينتنا التي نزورها؟ قلت له: لقد استطاعت"القوى الناعمة"والتي أصبح من الصعب مقاومتها في ظل هشاشة عقول تقبل الاحتراق بكل يسر وسهولة، استطاعت أن تقضي على ثقافة الامتداد الطبيعي للتحديث والتطوير، والعمارة أصبحت للأسف الشديد هي العنوان الأول للتغيير والسباق نحو الدخول في القرن الواحد والعشرين. وقلت له أيضاً ونحن نتجول في أرجاء المدينة التي نزورها: هل ترى أية آثار للامتداد التراثي المعماري الذي يشهد على تطور عقول هذا الجيل، ولكنه يحتفظ بالنسب الفكرية والنسيجية وفصيلة دم الهوية؟ إن ما أشاهده أُسميه"فسقاً معمارياً"اختلط فيه الحابل بالنابل، إنه أشبه ما يكون بحفلة مهرجان سينمائي يتبارى فيها مصممو الأزياء العالميون لعرض آخر تقليعات الموضة، وما أراه هو سباق لموضة معمارية. العمارة يا صاحبي رائعة وتحفة فنية إذا جمعت بين شوق الماضي وتطوير بيئة الحاضر وتطلع إلى امتدادها للمستقبل. العمارة يا صديقي رنين عقلي تمتد جذوره بالنسبة لنا من عمارة سيدنا إبراهيم عليه السلام للكعبة المشرفة إلى بناء سقيفة بني ساعده إلى تطوير عمارة الحرمين الشريفين ومنطقة قصر الحكم، والعمارة العربية والإسلامية زاخرة بالشواهد والإرث المعماري البديع. المعماري المبدع هو الذي يملك عجينة ثقافية وتراثية تبرزها موهبة ومهارات وعلم يستطيع صياغتها من جديد مع الحفاظ على عمقها التاريخي، بعيداً عن الدسائس المعمارية. أنا يا عزيزي لا أنادي بمطابقة للثقافة والفكر المعماري القديم، أي البناء بالطين والتبن وسعف النخيل، بل أرجو وأتوسل ألا تفقد مدننا العربية هويتها بناطحات سحاب تحمل هوية الفسق المعماري الدولي. انظر يا عزيزي إلى المدن الأوروبية مثل مدريد والحمرا وروما وفيينا وباريس ولندن وحتى موسكو، انظر عندما تذهب إليها، إنك تقرأ التاريخ بالمشاهدة حتى لو لم تقرأه في الكتب التاريخية، أما نحن - للأسف - فجعلنا تراثنا وثقافتنا المعمارية في قاصية المكان للذكرى، تصاحبها موسيقى حزينة لتقديم العزاء لضياعها، وعندما عاودنا الحنين أكثر صرنا نبحث عنها في كتب الآباء والأجداد، وأقمنا لها أسابيع لراحة تأنيب الضمير، ولكسب نوعية من المتسوقين تحت شعار الجذب السياحي، وبدأنا نبحث عمن أضاعها، وكيف ضاعت؟ وما الوسيلة لإعادتها، وسيكون التعويض والثمن باهظاً. [email protected]