بعد انتهاء كل أمسية قصصية كثير ما تدور المداخلات والتعليقات النقدية حول النصوص الملقاة، اما بوسمها بالنصوص الباهتة وابتعادها عن الشروط الفنية للكتابة القصصية، واما بافتقارها للحدث كجوهر للسرد وعنصر من عناصره الرئيسة. فهل نحن امام أزمة شكل في القصة القصيرة المعاصرة، أم أزمة رؤية أم كلتيهما؟ الحقيقة أرى أننا ازاء اشكال مزدوج، يتحدد في بعض مستوياته في أزمة خلق شكل ابداعي مقنع ومعافى، وأزمة تلقٍ. وما أقصده بأزمة الخلق القصصي هو اللحظة الراهنة لتحول الكتابة القصصية عند بعض كتابها الجدد الى استسهال مريع لهذا الفن الصعب والجميل، استسهال يجعل بعض النصوص غير مقنعة لا شكلاً ولا رؤية بل ان بعض هذه النصوص تأتي كخواطر وتداعيات متناقضة مقحمة في اللغة الشعرية المفتعلة والمغرقة في غرائبيتها وطلاسمها، ليس لضرورة فنية تنمو مع الحدث والرؤية، بل تأتي كبديل لهما وتستراً على خواء النص وضمور محتواه الفني، فلا يستطيع المتلقي أن يقبض منها شيئاً على الاطلاق. وأزمة تلقٍ أيضاً، لأن مفهوم القص المكون من حدث وتسلسل منطقي ولغة وصفية سردية، متسقة كما في القص التشيكوفي مازال قاراً وثابتاً في ذهنية بعض المتلقين من دون الادراك الكافي بأن مفهوم القص الجديد اختلف مع اختلاف الزمن والتطور التجربي لهذا الفن الموازي لتغيرات اللحظة المعاشة التي لا يمكن الا ان توصف بأنها لحظة وعي شقي، لهثة ومتقطعة ومتشظية مفتقدة لاستقرارها النفسي. هذه اللحظة دفعت بكاتب النص القصصي في البحث عن أشكال جديدة ومغايرة يصوغ من خلالها تجربته الجديدة، فصار النص ليس الا تعبيراً عن هذه اللحظات المتشظية إن على مستواها الفردي الخلاصي، او مستوى واقعها في انكسار احلامه واشواقه، فأصبحنا امام نصوص قصصية مختزلة ومكثفة مخلخلة للنسق السردي الكلاسيكي متوسلة الاستعارة والترميز اللغوي الايحائي بل استحالت إلى نصوص أقرب في الشكل الفني الى الكتابة الشعرية التي تتداخل فيها وتمتزج الأجناس الأدبية المتعددة، موظفةً بعض تقنيات قصيدة النثر او تقنيات الفن السينمائي والمسرحي، بمعنى آخر صار الشكل القصصي الجديد اما شكلاً هجيناً تنصهر فيه كل الأنواع الأدبية او شكلاً تجريدياً فريداً قريباً من الشذرة النثرية المحملة بالمفارقة او السخرية او الومضة النفسية المتداعية، وهو ما يسمى الآن بالقصة القصيرة جداً او ما أسميه بقصة السطر الواحد، التي تقول ولا تقول في الوقت نفسه، وتشرك متلقيها في تخييل القول وتخييل الحدث وتحفزه الى اعادة كتابة النص! لقد كانت القصة القصيرة على الأقل حتى نهاية النصف الأول من القرن المنصرم فن"الجماعات المغمورة"على حد قول فرانك اوكونور في كتابه المهم عن القصة القصيرة"الصوت المنفرد"، الا أنني استطيع أن اقول ان القصة القصيرة بدءاً من النصف الثاني من القرن السابق صارت فن الفرد المغمور ايضاً، ففي قصص"الجماعات المغمورة"هناك تسلسل منطقي للحدث يقترب من المفهوم الأرسطي:"بداية - عقدة - حل"، وهناك لغة سردية وصفية مشوقة، وهناك تفاصيل صغيرة منكشفة ومتضادة، اما قصة"الفرد المغمور"فنحن ازاء تشظي الحدث الذي يقترب من الرؤيا الفردية الخلاصية في صورة تداعيات وذكريات، او حديث داخلي ينضح بأزمته الآنية مقتصداً في لغته. هناك نصوص قصصية حديثة - حقيقةً - تقول ولا تقول في آن، بمعنى قد تطرح فكرتها في غير اكتمالٍ رؤيوي او فني، فتترك دائرة النص مفتوحة كي يلج اليها المتلقي، ويكمل النص على طريقته، وهو أسلوب تحريضي جديد يدعو المتلقي الى خلق نصه واعادة كتابته. هذا التكنيك القصصي يعد كمغامرة جمالية مدهشة، لكن ليس كل متلقٍ قادراً على فهم هذه المغامرة الابداعية، وليس كل من يكتب القصة القصيرة حالياً قادراً على اتقان هذا التكنيك اللغوي او مقنعاً عندما يكتب نصه تحت تأثيره. هناك نص قصصي مازال يكتبه الحدث / التجربة، واقصد به الحدث الماثل والمعاش، وهو بالضرورة ينتج رؤيته او فكرته المحورية، وهناك نص قصصي جديد تكتبه الفكرة او الرؤية / اللاتجربة، بمعنى أنها الشرارة الأولى او البادئة في تشكيل النص، ومن ثم تخلق هذه الفكرة حدثها المتخيل الذي غالباً ما يكون تركيباً من أحداث مفترضة عدة وليس بالضرورة أن يكون واقعياً ومتسقاً بل قد يكون تعبيراً عن حالة درامية صراعية، تشف عن موقف ووعي متلبسٍ بشعورٍ حاد بالمفارقة والسخرية المريرة ازاء واقع مرير. كانت القصة القصيرة - ومازالت - مع تعددية أشكالها، من شروطها الفنية أنها لا تحتمل تعددية الأفكار ولا تعددية التفاصيل في نصٍ واحد، والا طال شريطها اللغوي وصارت جنيناً لمشروع روائي، لذا فإن وحدة الانطباع هذا المفهوم الفني الذي جاء به الكاتب الأميركي أدغار الن بو مازال يعد في نظري شرطاً جمالياً للقصة القصيرة، في ظلاله يبحث القاص عن الجوهري فيما يصطرع حوله، يبحث عن الومضة الخاطفة والمنسي والمتواري عن النظر العادي، ليصبح نظره عدسة كاشفة تقتنص الجدث الجنيني او تتخيله ومن ثم يطوره في لغة القص كحدث مركزي في قالبه الفني الخالص، تلك كانت هي احدى طرائق القص كما وجدناها عند تشيكوف وموباسان وترجنيف، وعربياً كما وجدناها لدى محمود تيمور ويوسف الشاروني ويوسف ادريس. طرائق القص التقليدية هذه فقدت زخمها اللغوي والتقني، وهي لم تعد صالحة في كتابة القصة اليوم وان ابداعات هؤلاء مازالت تحتفظ بدفئها وصدقها الفني بل مازالت تمنحنا قسطاً من المتعة الجمالية والروحية، الا ان طرائقها في معالجة الحدث ونموه وتسلسله المنطقي لن تستطيع في زمننا المضطرب والمعقد أن تلتقط الجوهري او الومضي كحالة درامية معاشة، فانتقلت القصة القصيرة الآن من الحدث معززاً بالفكرة الى كتابة الفكرة معززةً بالحدث، صارت الفكرة هي البادئة وهي الخالقة للحدث، وقد يكون اللاحدث هو المعطى في النص القصصي. بعد هذا التمهيد النظري لعلي أصل الى جوهر مقالتي هذه والتي عنونتها"قصة الجراد"بين المليحان والفقيه، لأقول: إنني إزاء عنوان مشترك لقصتين بديعتين قرأتهما في كلٍ من مجموعة القاص المعروف جبير المليحان والموسومة ب"الوجه الذي من ماء"والأخرى في مجموعة الروائي الليبي المعروف أحمد ابراهيم الفقيه"البحر لا ماء فيه". فكيف تناول الكاتبان ثيمة"الجراد"في نصهما القصصيين؟ لعل حرارة الصدق الفني للحدث والفكرة معاً والتي انطوت عليه القصتان، هي ما أغراني لكي أستلهما من مجموعتيهما لأتلمس من خلالهما تشكلات الوعي والموقف - على رغم الفروقات الزمانية والمكانية- اللذين نسجا في ثنايا هذين النصين. في"جراد"الفقيه هناك حدث رئيسي يبدو في ظاهره حدثاً من احداث الطبيعة، وهو الهجوم المرتقب لأسراب الجراد على قرية هادئة وادعة في قلب الصحراء تمارس حياتها العادية، ترتزق كائناتها وتعتاش من خيرات أرضها أياماً وسنواتٍ، من دون أن يعكر صفو الحياة خطرُ ماحق كهذا من قبل. هناك نذير يستشرف هذا الخطر المقبل، يستتبعه استنهاض لأهالي القرية جميعاً للمواجهة قبل أن يبتلع القرية هذا المصير المجهول، ويجعلها أثراً بعد عين. تتفتق أذهان الأهالي عن بعض افكار المواجهة واقتراحات التصدي للهجوم، فيبدو بعضها مضحكاً او ساذجاً، وفي النهاية يستقرون على فكرة عقلانية يتفتق بها ذهن شابٍ منهم"المبروك"، وتنتصر الإرادة الجماعية بالهجوم على الجراد في مكامنه ساعة السحر"فأكلوه قبل أن يأكلهم"... كانوا يعبأون الجراد وهو نائم في أكياسٍ فارغة ليلقوه في مراجلٍ ثم يستقر في أجوافهم طعاماً لذيذاً. في"جراد"المليحان، القرية المنسية نفسها والنذير الشاب الصغير ذو الرأس الكبير نفسه، وقد رمز له القاص ب"سين"وكأني به يقول هذا سقراط القرية وحكيمها المبروك"في قصة الفقيه. انه ليس الجراد ما يستشرفه هذا النذير من خطر مقبل من السماء، انه شيء آخر أعظم خطراً وما الجراد الا إحدى نتائج هذا الخطر، فيذهب اهل القرية الى النتيجة ويتركون السبب، يبتهجون بها ويستبشرون بقدوم الجراد، فيوقدون النار لتغلي الماء في القدور الكبيرة، تحضيراً لوليمة الجراد الشهية، الا ان الفاجعة لا يكتشفها الا"سين"ذو الرأس الكبير والجسد النحيل، حين يكتشف أن الذي يكبونه اهل قريته في القدور ليس الا عقارب صغيرة صفراء ذات اذناب. وبطريقة كافكاوية عجائبية يبرع المليحان في تحويل الحدث - الرمز إلى ذروة المأساة ليعمق المفارقة عندما ترتفع اسراب العقارب - الجراد في الجو لتتحول الى أفاعٍ كبيرة لها أجنحة ومراوح ولها أزيز، فهي في الحقيقة ليست الا طائرات مغيرة، تسقط عناقيد كثيرة من جراد أشبه بعقاربٍ صفراء لامعة. بعد هذا التلخيص- المخل بالطبع- للقصتين، والذي لايغني عن قراءتهما والاستمتاع بأجوائهما، أقول بأن قصة الجراد للفقيه كتبها الحدث ذاته، ووعي الحدث ذاته أعطى الرؤية العامة للنص... أي فكرته، ومحتواه الفني، فالحدث هنا في التصاقه بشروط واقعه - القرية في الزمن والمكان المتعينين بأشخاصه وكائناته واجوائه له منطق نموه وتسلسله، وهو يضمر في طياته تأويلاً واقعياً لخطر أكبر، عنى به الكاتب المبدع بالغزو الخارجي المنغرس في الجسد والروح حتى النخاع. أما قصة الجراد لجبير المليحان فقد كتبتها الفكرة، الفكرة - الرمز هنا تطغى على سيرورة الحدث، وان كان الحدث في صورته الوصفية يعمقها ويجعلها هي لحمته وسداه. هنا الفكرة - الحدث تخلصت من شروط الواقع ومن ملابسات المكان والزمان، فالنص مفتوح الى رموز ودلالاتٍ عدة، متوسلاً الغرائبي - العجائبي لتعميق الوعي بالحدث الاحتمالي - الخطر الماحق الذي سينغرس في الجسد والروح حتى النخاع.