استمعت منذ فترة إلى حوار حول ثقافة المنطقة وتراثها الديني والاجتماعي، دار بين والدي وبين رحالة كندي كان في زيارة للمنطقة في السنة الخامسة العشرين منذ بدء رحلته حول العالم، أكثر ما شدني في هذا الحوار أن الرحالة تفاجأ عندما علم أن الرسالة المحمدية هي للناس كافة على اختلاف عرقياتهم وثقافاتهم وأزمانهم، إذ كان يعتقد أن الدين الإسلامي مخصص للبدو، على حد قوله، ولم يكن يدري أنه شامل لكل الناس، وأن شريعته نظمت جميع مناحي الحياة، وتفاجأ أكثر وبلغت به الدهشة مبلغها عندما علم أن للنبي"صلى الله عليه وآله وسلم"ذرية باقية إلى هذا اليوم، وخرج من عند والدي وقد بدت له الدنيا بصورة تختلف عما كانت في عينيه. كثيرون في العالم الغربي يعتقدون اعتقاد الرحالة، ويحسبون أن الدين الإسلامي دين نشأ في البادية لأهلها، وبعضهم يضيف أن هؤلاء البدو حولهم الطمع والتطرف إلى إرهابيين غرضهم إفناء كل مختلف. وإذا اقتربنا أكثر لنرصد نظرة المسلمين أنفسهم إلى دينهم فنجد أنها لا تخلو من سوء الفهم، فهناك من لا يرى في الإسلام سوى جانب سلوكي خالص، يتمثل في أداء الصلاة والأركان الخمسة وغيرها من العبادات السلوكية، ولا يرون في النبي"صلى لله عليه وآله وسلم"سوى شخصية أسطورية ماتت ومات أثره الشخصي في الحياة. وهناك من يرى في الإسلام مشجعاً على التجمعات المشبوهة ذات الأهداف الإرهابية أو المصالح الشخصية الضيقة، وكل هذه التجمعات تَنْسب إلى الدين ما ليس فيه، وتظهره بما شاءت من حلة تتلون وتضيق وتتسع بحسب توجهاتها ومراميها. وكل هؤلاء ينظرون للإسلام نظرة تغفل الجانب الفكري له كدين يدعو إلى بناء الحضارة على أسس سليمة قويمة، حضارة متماسكة غير هشة، مؤثرة وغير سلبية. وبسبب غياب هذه الفكرة التي تمثل المفهوم الحقيقي للإسلام عن أبنائه أنفسهم وعن الغرب بطبيعة الحال"نشأت حملات الإرهاب الثقافي التي كانت إحداها الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم"والخروج من هذه الأزمات لا يكون فقط عبر التعريف بالإسلام وبالنبي، واستعراض تاريخ الرسالة المحمدية، بل يكون عبر تفعيل الهدف الذي وجدت من أجله هذه الرسالة، وهو عمارة الإنسان للأرض وخدمة الإنسانية على الوجه الذي شرعه الله وارتضاه. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان النموذج الذي تجسدت فيه صفات النبي الحامل لرسالة رب العالمين، والإنسان المعمر للأرض. والاقتداء بهذا النموذج يستدعي استنهاض تراثه المتمثل في سنته وذريته باعتبارهما وسيلة لفهم النهج الذي سار عليه وبنى من خلاله خير أمة أخرجت للناس وأفضل حقبة عاشتها البشرية، والتي أعطت للإنسان معنى وجوده، ومن دون استنهاض وبعث لهذا التراث لن يكون هناك معنى لنصرته أو للتعريف به لدى المسلمين أو غيرهم. وهكذا كانت التنمية المادية والفكرية للمجتمع من أهم المبادئ التي قامت عليها شخصية النبي- الإنسان، وغياب هذا المبدأ عن حياة المسلمين اليوم ساعد في التوطيد للإرهاب الثقافي الذي يمارس بحقهم اليوم، فكيف نطالب الغرب باستيعاب ديننا وإدراك أبعاده الحضارية ودور شريعته في انتشال العالم من مشكلاته، ونحن لم نستطع تحقيق أبجديات هذا الدين، بل إن جل مشكلاتنا الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية نتجت عن تخلينا عنه، فليس له نتائج ظاهرة في واقعنا نستطيع أن نتباهى بها أمام الغرب، فالدول المسلمة اليوم تعاني الفقر والجهل والضعف، إضافة إلى تهمة الإرهاب التي روج له الإعلام الغربي كسمة للإسلام والعربي كسمة لبعض المسلمين، وكل هذه الصفات تناقض مبدأ التنمية الذي قامت عليه الرسالة المحمدية وارتكزت عليه شخصية المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي لا تحترم الأمم ولا الثقافات إلا بمدى تمسكها به. ولعل من أسباب غياب هذا المبدأ عن عقلية المسلمين على مدى قرون عدم أخذه الحيز المفترض من الكتابات والدراسات الإسلامية التي اقتصرت على العلوم الدينية كالفقه والتفسير والوعظ، ونادراً ما أولت هذا الموضوع الاهتمام الكافي إلا في نطاق ضيق لم يؤدِ إلى النتيجة المطلوبة. فلم يخاطب الإنسان كفكر ولم يأخذ دوره في الحياة النقاش المفترض، على رغم أن القرآن الكريم ركز في خطابه على أولي الألباب والنهى الذين يعقلون ويتفكرون. وما أسهم في إعادة نشر الرسوم المسيئة واستخدامها كسلاح مشرع في وجوهنا"الاعتباطية في اتخاذ الموقف والآليات الملائمة للتصدي لهذا النموذج من نماذج الإرهاب الثقافي الذي تعرضت له معتقداتنا وفعل فيها أكثر مما تفعل القنابل في الأرواح، فردود الأفعال الجماهيرية خضعت للاندفاع العاطفي غير المقنن بالتبصر والتعقل، والرغبة في التنفيس الآني هروباً من احتقانات أخرى وبغض النظر عن النتائج المترتبة، هذا ما كانت عليه الشريحة الأكبر من الجمهور عند نشر الرسوم للمرة الأولى، وهو ما زاد الأمور تفاقماً وأدى لازدياد وطأة التشنيع بمقدستنا. وكان حل المقاطعة كعلاج للمشكلة حلاً منطقياً على رغم الإجهاضات التي تعرض لها، لأنه يعيدنا بطريقة أو بأخرى لأهمية التنمية والإنتاج، فمن لا يستطيع الإنتاج لا يستطيع الاستمرار في المقاطعة، إضافة لأنه يظهر مدى ضعف الآخر، وأهمية اختيار الإنسان ودوره في صناعة القرار وتحديد ملامح المستقبل، والذي لا يولي أهمية لاختياراته ولا يسهم بها على نحو إيجابي"فإنه لا يولي أهمية لذاته. نخلص من ذلك إلى أن نظرة الغرب لنا ومدى احترامهم لقيمنا نحددها نحن بتمسكنا بمبادئ الرسالة المحمدية والتي من أهم مبادئها التنمية وعمارة الإنسان للأرض من منطلق يستلهم شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتراثه، وبتحقيقنا ذلك نكون قد ضربنا للبشرية المثل الجلي في إعادة إنسانية الإنسان والنماء في جميع مناحي الحياة، وإذا صدقنا في ذلك فلن يضر الجبال هبوب الرياح. [email protected]