يحيل عنوان هذا الكتاب على تسمية"القارئ القياسي"التي يقترحها أحد أبحاثه لوصف موقف التلقي الذي يمثله التراث النقدي البلاغي، حيث يتغلغل في البلاغة العربية طموح إلى أن تغدو الكيفيات الأسلوبية واختيارات التركيب والدلالة في النص محدَّدة دلالياً وجمالياً في ذهن هذا القارئ بشكل مسبق ونهائي في ما يشبه المعجم الذي يصف ويعاير ويفسر بمعزل عن التجربة أو الفعل الفردي والاكتشافي للقراءة، ودون تصور تاريخي لاستجابات التلقي يأخذ في حسبانه الصفة الإبداعية الاختلافية والنسبية لمضامين النصوص وقيمتها الفنية. وقياسية هذا القارئ هي وصف لجهة امتيازه في البلاغة التي لا يسعف في وصفها وإبرازها، من الوجهة القياسية، جهات: التضمن، أو المعرفة والخبرة، أو التعيين للقارئ والقصد إليه، أو الاختبار لموقفه من النص. وهي جهات قام لوصف القارئ بها في نظرية التلقي مصطلحات لا تمنع - تماماً كما هو حال القارئ القياسي معها - من تداخلها الوظيفي، مثل: القارئ الضمني و القارئ المتميز و القارئ العارف و القارئ المقصود و القارئ الواقعي أو الاختباري. ويضم الكتاب أربعة أبحاث، يحاول الأول أن ينظر إلى الفكرة البلاغية العربية ومفاهيمها بما يكشف عن موقفها بوصفها متلقياً ذا خطاطة ذهنية محددة تجاه اللغة والمعنى والإبداع، ويعمد البحث إلى أبرز مبادئ البلاغة الأساسية وهي: الفهم والإفهام والمعنى والمجاز والقصد والقياس، تلك التي رسمت بها البلاغة قوانين تفسير الخطاب وقوانين إنتاجه رسماً يبرهن على زاوية خاصة للنظر من وجهة التلقي بحيث يتأكد في الكيفيات البلاغية، دوماً، ذلك المتلقي الذي يبحث عن قصد المتكلم بطريقة استدلالية عقلية ولغوية أفضت إلى أن يغدو متلقياً غير زمني وغير متعدد أو واقعي، إنه الأعرابي المجرد الذي صنعته البلاغة وانصنعت به. وهذا المتلقي البلاغي بما يجسده من انفصام مع التاريخ يحيل على انفصام أكثر عمقاً بين المعنى والعبارة لا تبقى العبارة معه أكثر من وعاء للمعنى. والنتيجة التي يمكن مقاربتها للفكرة البلاغية بهذا المنطوق تأخذ مدارات تأثير وتفاعل أوسع مدى من وقوفها الجمالي والدلالي على الكلام البليغ شعراً ونثراً، إذ أسهمت البلاغة في صياغة أفق الرؤية للغة وقضايا الخطاب الديني الأصولية والعقدية، وشاركت بإطلاق المعنى وأحاديته في إنتاج استبداد السلطة السياسية، وفرضت بالأثر الدعائي مركزَة الذات، كما تبادلت مع جو التعليم والتعلم إنتاج التلقين والإفهام كأفق ذهني يأسر الفردية ويواري الاكتشاف والمبادرة. وهي هكذا لم تفد من بلاغة أرسطو إلا ما أكد منظورها هذا بأكثر من معنى. ويقرأ البحث الثاني طريقة التوليد للمصطلح الأدبي عند القدامى، من خلال أبرز المصطلحات التي تصف الشعر في عروضيته وتفاضله وعلاقته بالقديم"ذلك أن هذه المصطلحات ?كما يكشف البحث- تدخر عمقاً غائراً من الهم التاريخي عبر أبعاد اجتماعية وثقافية وذوقية ومعرفية... يظل المصطلح بؤرة للدلالة عليها واستنباطها، ومن ثم نعي الفارق الدفين في المصطلح بين مادته المعرفية من حيث هو إرادة عقلانية للوصف العلمي والكشف، وبين مادته التاريخية من حيث هو اختيار يحمل عليه وعي منحاز بالضرورة لجماع مكونات الذات في لحظتها الفردية والحضارية. أما البحث الثالث فيتخذ من القراءة النقدية في التراث النقدي مادة للكشف عن سلطة النموذج الذي يستحيل مركزاً ويشكل، بالتالي، سلطة تتحكم في القيمة والمعنى واللغة والتجربة، ولهذا فإن العلاقة بين النص الشعري أو الأدبي والقراءة هي، في هذا المستوى من سلطوية النص وسطوته النموذجية، علاقة تناف وتناقض وجودي"لأن النص المتسلط هو نص مستبد بمعناه. فما مدى السطوة، التي مثَّلها إذاً النموذج النصي الشعري، على حجم وفعل القراءة النقدية في تراثنا؟ كيف مثّلت علوم اللغة الوعي بتلك السطوة ؟ ما مقدار الفعل الذي جسدته اللغة في الوعي النقدي العربي؟ وهل في نقدنا القديم ما يجاوز النموذج والجزء والخصوص إلى رحيق الشعرية التي تذيب ما يطوِّق النصوص من فردية ومقصدية ومعيارية؟ وتتناول الدراسة الرابعة والأخيرة الأنواع الأدبية من زاوية تفاضلها وتراتبها النقدي، ومن ثم عدم تساويها، حضوراً وأهمية، في الحقب والنظريات والمذاهب النقدية الأدبية"إذ لم تكن - مثلاً - قيمة القصة عند معظم النقاد العرب القدامى وحضورها في الفعل الأدبي في عصورهم في مستوى قيمة الشعر وحضوره، ولم تكن قيمة الشعر الغنائي أو الملحمة وحضورهما لدى أرسطو في مستوى قيمة المأساة وحضورها، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الشعر عند وردزورث أو العقاد وعن الرواية عند لوكاتش وباختين ومحمد برادة وجابر عصفور. وتتصل قضية التراتب والتفاضل بين الأنواع الأدبية بأسباب مختلفة تعود إلى اختلاف المواقف النظرية النقدية، أو جدل الوظيفة والشكل، أو الإطار التاريخي والاجتماعي للفاعل النقدي، فضلاً عن تفاعل ذلك كله مع مجريات الوقائع الإبداعية، إنتاجاً وتلقياً، حين تفرض الغلبة والاهتمام بنوع أدبي من دون غيره، أو بصيغة ما داخل هذا النوع أكثر من سواها. ولقد نُشِرت الدراسات التي يضمها هذا الكتاب على فترات متباعدة حيناً ومتقاربة حيناً آخر، ولكنها جميعاً تتشارك أسئلة جوهرية في موضوع القراءة والعلاقة بالتراث والزمن وأفق إنتاج المعنى. وهي أسئلة جديدة دوماً"لأنها أسئلة وجودية ولا تكف عن محاورة الفردية والحضور. * مقدمة كتاب يصدر قريباً للمؤلف عن دار الفارابي.