بلغة الجغرافيا قد تكون المسافة بين الرياض وكانتون في الصين ثابتة ببضعة آلاف من الكيلومترات 6700 كم تقريباً لا تتغير، ولكن بلغة الاقتصاد فإن المسافة بين المدينتين تقاس بكلفة شحن البضائع، وبالوقت الذي يستغرقه انتقال حاوية الشحن من مدينة إلى أخرى، والمسافة تبعاً لهذين المعيارين متغيرة، وتضيق بشكل متزايد، أيضاً بلغة الثقافة والفكر فإن المسافة بين المدينتين تقاس بسرعة انتقال المعلومات بينهما، وتبعاً لهذا المعيار فإن المسافة بينهما تلاشت تقريباً، ولتكون الصورة واضحة فإن سرعة انتقال المعلومات عبر شبكات الاتصال اللاسلكية تتضاعف كل تسعة أشهر تقريباً، بمعنى أنه خلال الخمسة عشر عاماً الماضية تضاعفت السرعة 3000 في المئة. عندما دشن رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون عام 1969 الجامعة المفتوحة للتعليم الجامعي كان الجميع يرى في هذه الخطوة فجراً جديداً لأنها أزالت حاجز المسافة الجغرافية والاجتماعية، حيث لم يعد التعليم العالي حكراً على فئة معينة دون أخرى، بل مفتوحاً أمام الجميع، الآن - وبعد ثورة الاتصالات الهائلة - تبدو فكرة الجامعة المفتوحة متواضعة مقارنة بالواقع الجديد. على الأصعدة كافة المسافات تتهاوى بشكل متسارع ومثير لدرجة لا تسمح حتى بالتقاط الأنفاس، وهناك دلائل متزايدة تشير إلى أن المسافة بين مكان وآخر واقتصاد وآخر تلاشت تماماً، وبدرجة أكبر من الأهمية تلاشت المسافة المنطقية بين تحقيق المكاسب الهائلة، وبين تكبد الخسائر الفادحة... المسافة التي ألفناها بين الأوضاع الجيدة والأوضاع السيئة ماتت ولم تعد موجودة، حتى على مستوى المناخ والأحوال الجوية أصبحت التقلبات أقسى وأكثر حدة، أو على الأقل هذا ما نشعر به بفعل التغطيات الموسعة للكوارث المناخية في كل زاوية من هذا الكوكب! الأشياء أصبحت تحدث بسرعة هائلة لم نعتد عليها بعد، وقد يكون هذا هو التفسير المنطقي لما يحدث، ثورة الاتصالات والمواصلات صنعت عالماً جديداً مكتظاً بالأحداث والمعلومات التي تتوالى بسرعة تزيد على قدرتنا على فهمها وتحليلها، فنحن مازلنا نفكر بسرعة تشكلت في زمن القطارات والتلغرافات... وأمام هذا السيل الجارف من التحولات والسرعة العجيبة التي تحدث بها أصبحنا أشبه بسائق الشاحنة الذي يجرب للمرة الأولى قيادة سيارة فيراري، كل شيء حوله يمر بسرعة لم يألفها من قبل وتفوق سرعة جهازه البصري، ولا تمنحه الوقت الكافي للفهم والاستيعاب، كل شيء يحدث بسرعة! وإزاء هذا الواقع فإن المتاح أمامنا هو إتباع النصيحة القديمة التي تقول: إذا حملتك العاصفة حاول الاستمتاع بالرحلة، لأنه ليس هناك أمر آخر تستطيع القيام به! [email protected]