ها هو رمضان يباغت محبيه برحيله، بعد أن أطل ككل عام ضيفاً خفيفاً ما لبثنا أن يفاجئنا برحيله قبل القيام بواجبات ضيافته. على أية حال يأتينا وأي أثر يحدثه فينا ثم يتركنا هذا الشهر، الذي لا يكتسب تميزه من حيزه الزماني، بل من العبق الروحاني الفريد الذي ينشره في حياتنا ولا يتوافر في غيره، العبق الرمضاني المميز الذي تتجلى فيه أسمى الفضائل الإنسانية التي فقدت في هذا الزمان من إحسان ورحمة وأمل التي تحف الإنسان في هذا الشهر وتلازمه في تعاملاته وعلاقاته لتشكيلها على نحو فريد قلما يتوافر في وقت آخر من العام. ممارسات مميزة تصاحب إطلالة هذا الشهر وتستمر فيه، فالمصاحف تتخلى عما اكتساها من غبار، والمساجد تستوعب طاقتها من المصلين وأكثر، وإفطار للصائمين هنا، واستقبال للصداقات هناك، أصدقاء يلتقون لم تفلح أشهر السنة في جمعهم، ولم يجدوا غير هذا الشهر لتجديد الدماء في علاقاتهم، لفتات لا تجتمع في شهر آخر، وهي في رمضان تتركز وتتكشف لتتحول لأسلوب رمضاني يعبر عن الحياة كما يجب أن تكون. رمضان لا يتوقف عطاؤه عند ذلك فحسب، بل إنه مصدر السعادة والأمل بالنسبة لمن لا يلتمسون تتحقق آمالهم البسيطة إلا فيه، أحلام تتلخص في مطعم هنيء وملبس لائق، هي من أساسيات حقوقهم كبشر، وعلى رغم ذلك فيندر أن تحقق إلا في شهر واحد من العام، فيقضون بقيته على جوعهم وعلى طموحات في مستقبل أفضل لا تسمح لهم في التمادي فيها إمكاناتهم الضعيفة والمعدومة أحياناً التي تجعلهم يعيشون غربة في مجتمعهم ووطنهم، لا يؤنسها سوى إطلالة رمضان بأياديه البيضاء التي تتسابق إلى المحتاجين في هذا الشهر في لفتات تكافلية تندر في ما سواه، فيصبح لذلك معقد آمال هؤلاء المحتاجين، فيطرق بخيره أبوابهم الموصدة على أحزانهم وفقرهم أحد عشر شهراً في العام، وبصيص نور يبدد ظلمة أحوالهم ويعدهم بالأفضل، فأي قناعات يبدلها هذا الشهر، وأي روح يدخلها على مريديه. وعلى رغم بعض الظواهر التي قد تعكر هذا العبق الرمضاني إلا أن ظواهر الخير الذي تحفه تحمل البصمة الأوضح على ممارسات هذا الشهر، وتجدر الإشادة بها خوفاً من أن تكون مما يبكي عليه غداً، فيظل تأثيرها غالباً، على رغم أن هناك من لا يرون فيه سوى تجارة دينية تسوق البضائع المتباينة باسم رمضان، أو باسم اكتساب الأجر وتحصيل الغفران، وعلى رغم أن الاندفاع للخير يكون أحياناً بدافع التقليد والعادة، وعلى رغم أن هناك من يرفع شعار الاستهلاك بأوجهه وأشكاله وأنواعه كافة وكأن هذا ما وجد الشهر لأجله، وعلى رغم هذا وذلك يظل رمضان محتفظاً بوهجه كموسم مميز يرتقي بالبشرية، فهناك من لا يجدون طعم الحياة إلا فيه، وهناك من لم يشعروا بقربهم من خالقهم، ولا بإحساسهم بذواتهم، ولا بانتمائهم إلى مجتمعهم، ولا إلى الدين الاوسع انتشاراً إلا من خلاله. فهل سيبقى رمضاننا الآفل شيئاً من هذا العبق الروحاني الفريد إلى بقية العام، أم أن مدفع العيد سيكون إيذاناً بوداع رمضان وما أثرى به حياتنا من معانٍ سامية؟