أغبط النساء والرجال الذين يواجهون سن الشيخوخة بالتحدي والعطاء والمرح، يعدون كل عجز يلم بهم عدواً ينبغي قهره بقوة الإرادة، والاستخفاف بمتاعبه بمرح، ونراهم أحياناً يفوزون بفوز عظيم... والدي، رحمه الله، كان من هؤلاء الرجال الذين يحبون العطاء والمرح، رفض العجز وتقبل عقبات الشيخوخة بمرح واعتدال، كان يقول:"الشيخوخة زي يُفرض على الإنسان، ولكن الجوهر الحق لا يطاله الهرم"، وكلما وجد نفسه أنه لا يستطيع الوقوف على رجل واحدة، ويستعصي عليه لبس سرواله، يبرر فشله بسبب قلة ساعات نومه، وعندما يأخذ وقتاً طويلا ًفي البحث عن أشياء يحتاجها، يفوق الوقت الذي يقضيه في استعمالها، يلقي اللوم على من حوله لعدم التنظيم والترتيب. سؤال تبادر للذهن: لماذا كل هذا المرح والاستخفاف بعراك الحياة عند المسنين؟ نراهم في حياة من هم دونهم سناً"في خلافاتهم ومعاركهم الطاحنة ومناوشاتهم"يقفون بثبات لا يهزهم شيء، لا صياح منتصر ولا نحيب خاسر، فهم أحرص على قيمة الحياة بعد أن خبروها ولمسوا في سني تجاربهم قيمتها ومدى حكمتها وسر الوجود فيها. بصورة ما وبعطاء متفاوت لن تضيع جهودهم وخبرة سنواتهم هباء، لديهم الحكمة لطيش شباب ثائر، يملكون التهدئة لنضوج فكر حائر، قادرون على الانحناء للحنو على جيل مقبل، لديهم الملاذ لاحتواء ابنة أو ابن تائه، ولديهم خبرة الحياة وعصارتها لجيل مقبل... هم لا يحتاجون بعد هذه الرحلات عبر الماضي إلا لتقدير يطمئن النفس، ويثبت الهوية بأن لهم وجوداً حقيقياً. قبل كتابتي لفكرتي هذه مرت ذكرى والدي، فدفعتني باهتمام وفضول لطرح سؤال على من هم في سن الشيخوخة من معارفي: ما الذي يمكن أن يبهجك ويمكنك من رسم صورة مشرقة لبقية أيامك؟ أدهشني الجواب والطلب الموحد في المعنى والمضمون:"أحتاج لمشروع ما لكي أبقى حياً من غير أن يكون مشروعاً عملاقاً يثبط العزيمة!". أعجبني جواب لأحد الكتاب في صحيفة يومية قال:"احتاج للمسامحة ودفن الأحقاد ضد أخوتي البشر لأبتهج بقية أيامي، وإن رغب أحد، عرضاً، أن يتذكرني بعد رحيلي فليتذكرني بعمل طيب، أو كلمة رقيقة، لمن يحتاج إليها. فإذا فعلتم ما أطلب فسأبقى حياً إلى الأبد".