"يا حنان يا منان, يا حي يا قيوم, يا رحمن يا رحيم"عبارات يشاهدها الملايين, ويقرأها العباد والطائفون, عبارات تكتسي بماء الذهب وتطرز بخيوط الحرير الصافي, تلك هي أستار الكعبة المشرفة وقناديل الهدى واضاءات الإيمان, تلك العبارات الخالدة التي تزين صدر أقدس البقاع وأطهرها على الاطلاق. الكعبة المشرفة رمز عظيم عند المسلمين على السواء, وتاريخ مسطر بالبذل والعطاء, وللكعبة المشرفة وكسوتها مشوار طويل وحكاية ذات فصول عدة، بدأت منذ أن خلق الله هذا الكون الفسيح ووضع فيه بيته المعظم, وتتأرجح الروايات عبر كتب التاريخ حول الكعبة المشرفة ومتى بنيت، فمنها من يذكر أنها شيدت عن طريق ملائكة السماء, وبعضها الآخر يقول إن آدم عليه السلام هو من وضع أركانها, والرواية الثالثة تذكر أن الله سبحانه وتعالى خلقها قبل أن يخلق الأرض بألفي عام. ولكسوة الكعبة قصة شهيرة ذكرتها الأخبار وتناقلتها الركبان تعود إلى ما قبل الإسلام وتحديداً قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بفترة طويلة عندما هم احد ملوك اليمن وهو التبع الحميري بهدم الكعبة, حتى إذا ما اقتربت جنوده من مكة اعترضت طريقه عاصفة شديدة البأس أعاقت طريقه عن التقدم إلى مكة, ليصاب بعدها بمرض خبيث حتى أوشك على الموت, فنصحه بعض أحباره بالعدول عن فكرته ووجوب تعظيم هذا البيت والطواف حوله, وان يذل له ويحلق رأسه عنده, ففعل التبع واستجاب لرأي أحباره, فطاف بالبيت وحلق رأسه, وأقام بمكة ستة أيام بلياليها احضر خلالها افخر الثياب وأغلاها لكسوة الكعبة, ومن هنا بدأت قصة كسوة الكعبة في تاريخ طويل منذ ذلك الوقت حتى يومنا الحاضر. وكانت الكعبة المشرفة أيام الجاهلية وعندما كانت قريش تحكم مكة تكسى يوم عاشوراء أي في العاشر من شهر المحرم, ثم أتى بعض قادة قريش ليغيروا هذه العادة واستبدلوا ذلك اليوم بيوم النحر، فكانوا يعمدون إلى الكعبة في ذي القعدة فيعلقون كسوتها إلى نحو نصفها, ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم, فإذا حل الناس يوم النحر كسوها الكسوة الجديدة. وعندما جاء عصر الإسلام كساها النبي صلى الله عليه وسلم عند حجة الوداع, كما انه كساها بالثياب اليمانية عندما احترقت على يد امرأة أرادت أن تطيبها بالبخور. وتوالت العصور بعد ذلك، واستمر الناس في كسوة البيت كالمعتاد, حتى دخلت على الكسوة بعض الكتابات والنقوش التي نشاهدها في يومنا الحاضر, وتذكر بعض الروايات أن أول من ادخل الكتابات على ثوب الكعبة هم المماليك وذلك في سنة 761 للهجرة, وعثرعلى بعض تلك النقوش والكتابات التي تعود إلى ذلك العصر. وكان ثوب الكعبة والى وقت قريب يأتي من مصر, حيث كانت الحكومة المصرية تنفق على تجهيز الكسوة إبان حكم الدولة العثمانية وتجهيزها وإرسالها إلى مكة مع المحمل الشريف, حتى جاء العهد السعودي، فأمر الملك عبدالعزيز بإنشاء دار خاصة لعمل كسوة الكعبة في مكة وتوفير كل ما تحتاجه تلك الكسوة لتجهيزها, واستمر العمل بذلك حتى أمر الملك فيصل وتماشياً مع التقدم العلمي بتجديد مصنع الكسوة القديم وتطويره وفق احدث المواصفات وأرقاها, وتم افتتاحه على يد الملك فهد بن عبدالعزيز عام 1397 للهجرة ابان كان ولياً للعهد. وينفق على كسوة الكعبة حالياً أكثر من 20 مليون ريال, أي ما يعادل خمسة ملايين دولار, ويقوم على تجهيز ثوب الكعبة أكثر من240 عاملاً معظمهم سعوديون بعد أن كان عددهم لا يزيد على 16 عاملاً جلهم من الهنود في فترة سابقة, ويتوزع هذا العدد الضخم على أقسام المصنع المختلفة، كالصباغة والنسيج والطباعة والتطريز, حتى أصبح المصنع متحفاً يزوره الآلاف سنوياً من الزوار والحجاج والمعتمرين, وعلى رغم استخدام الميكنة الحديثة في بعض أعمال الكسوة، الا أن الإنتاج اليدوي مازال يحظى بالإتقان والجمال الباهر، إذ يتفوق في الدقة واللمسات الفنية المرهفة. وتستبدل الكعبة ثوبها مرة واحدة في العام, كما أنها تغسل مرتين في العام الواحد عند حلول شهري شعبان وذي الحجة, وتغسل الكعبة بماء زمزم والورد وطيب المسك, وتغسل الأرضية والجدران الأربعة من الداخل ثم تجفف وتعطر بدهن العود الخالص. وتكتسي الكعبة المشرفة بثوبها الجديد يوم التاسع من ذي الحجة في احتفال إسلامي بهيج، تنظمه الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام، ويحضره كبير سدنة البيت الحرام الشيخ عبدالعزيز الشيبي، إضافة إلى عدد كبير من المسؤولين السعوديين, ويتم في هذا اليوم السماح للعديد من عامة الناس بالدخول إلى جوف الكعبة والصلاة بها, كما انه يسمح للنساء ايضاً بالدخول والصلاة بجوف الكعبة لينلن نصيباً من الأجر والثواب. واقر مصنع كسوة الكعبة أخيراً تكليف مجموعة من العاملين عند حلول شهر رمضان بمتابعة ثوب الكعبة والحفاظ عليه من التلف من بعض المعتمرين الذين قد يمزقون شيئاً منه للتبرك أو للذكرى وذلك على مدار ال24 ساعة. \