تتزاحم الذكريات في شهر رمضان، خصوصاً المتعلقة بأول أيام الصيام على الأطفال التي لا تخلو من الطرافة والغرابة، ولعلها أبرز ما تستقبله ذاكرة الصائمين بعد مضي أعوام على أول تجربة قاسية خاضوها مع هذه الشعيرة الدينية الغريبة بالنسبة لهم آنذاك. لا يزال يتذكر المهندس منير الصويغ أول أيام صيامه عندما كان طفلاً دون العاشرة، التي لم تخل من القصص التي تحتضنها ذاكرته إلى اليوم، يقول:"أتذكر أنني أجبرت على الصيام وأنا في الثامنة، وكانت الأجواء وقتها حارة وجافة جداً، ولا توجد أجهزة تكييف وغرف يمكن أن أنام فيها وأنسى الجوع والعطش، بل كنت على موعد مع المعاناة". ويضيف:"كانت عقلية الآباء في السابق تؤمن بأن الصيام واجب حتى على الطفل الذي لم يتم العقد الأول، وكنا نعاقب على شكوانا إذا أحسسنا بالجوع أو العطش ليصل الأمر إلى التعنيف والضرب والتخويف بنار جهنم التي لصقت بأذهاننا منذ صغرنا حتى تناسينا نعيم الجنة، ومع ذلك يبقى لتلك الأيام نكهة خاصة لا تنسى". ويشير الصويغ إلى مغامراته مع الصيام، التي بدأها حين لسعته عصا الوالد الغاضب من تذمره، يقول:"كنت أخاف من سخط والدي كثيراً، لكنني إذا أحسست بالعطش أو الجوع كنت أتظاهر بأنني ذاهب لدورة المياه، التي حولتها إلى مطعمي الخاص، إذ كنت أسرق من مائدة الإفطار وأدخر بعضها حتى أنقذ نفسي من الهلاك". ويضيف:"حين أنتهي من تناول الوجبات في خوف كنت أمثل دور المنهك التعبان، المتضور جوعاً، فأدخل في فراشي، إلا أن والدي شك أثناء مراقبته في تصرفاتي وكشفني بعد أن رأى بقايا الخبز بالقرب من فمي، وتلقيت صفعة قوية، تلتها علقة ساخنة ما زلت أتذكر تفاصيلها إلى الآن، حتى أنني كرهت رمضان لفترة لكنني تصالحت معه في ما بعد". ويسرد المعلم صالح البشر حكايته الطفولية التي بدأت فصولها وهو في التاسعة من عمره، يقول:"كان رمضان بالنسبة لي ولبقية أقراني في الحي شهراً جميلاً للسهر واللعب والأكل والطقوس الغريبة الأخرى، لكن حين جاء الدور على تدريبي لأصبح ضمن فريق الصائمين أصبت بنكسة لم أتوقعها، فأنا مراقب في كل شيء في حركاتي وسكناتي". ولتدريبه وإقناعه بالصيام، اتبع والده خطة مستخدمة وبكثرة في منطقته،"أقنعني والدي أنني إذا ما أردت الغش وتناول الطعام الآن فسأصاب"باللوتة"، وهي مرض يربط الفم بصورة ملتوية، وستمنعني من الأكل والشرب لعام كامل، ويمكن أن أموت بسببها ولا علاج لها، فكلما أردت أن أشرب أو آكل أشعر برجفة في فمي فأحجم عن ذلك وكانت الرجفة بسبب الخوف وكنت أظنها بسبب اللعنة التي يمكن أن تصيبني". ويضيف:"كنت دائم الجلوس في المطبخ وبجوار أمي فهو المكان المفضل لدي، وكنت أمسك بقطع صغيرة من الكعك أو الحلوى أو أضعها في كيس صغير وأنتظر وقت الإفطار، وغالباً ما أشبع نفسي بالنظر للأطباق وهي تعد، أو أقوم بإطعام أخي الصغير فأشعر بالشبع وكأنني أأكل، وما أن يحين وقت الإفراج حتى أقفز على الأكل قفزاً". ولا يزال الطبيب علي السلمي يتذكر ابن جيرانه الذي فقد الوعي، وكاد يفقد الحياة بسبب عناد والده الذي أصر على أن يكمل صيامه لآخر الشهر وهو لم يكمل الثامنة من عمره، يقول:"سمعنا صراخاً من بيت الجيران فهرعنا إلى الخارج لنجد الأم محتضنة صديقي سلمان وهو خائر في يديها، وتناوله والدي وأسرع به إلى المركز الصحي". ويضيف:"أصيب بهبوط حاد نتيجة الجوع والعطش، وكان سيصبح ضحية معتقدات خاطئة التي تجبر الأطفال على الصوم بشكل مفاجئ من دون تدرج، فالأولى أن يبدأ التدريب بربع يوم ثم بنصف ثم بيوم ولا يضغط على الطفل بل يكافأ ويشجع على ذلك". ويؤكد أن"عملية التدريب تتطلب حرفية وإتقان ومتابعة، فالطفل الهزيل المريض الذي لا يقاوم الجوع يجب أن يعفى من هذه المهمة الصعبة والإسلام دين يسر وليس عسر، وأنا أتذكر أنني كنت أصوم نصف يوم بريال يمنحني إياه والدي، ثم أخبرني بأنه سيمنحني ريالين إن صمت اليوم كله ففعلت لكن ليس لكامل الشهر بل لأيام متفاوتة فكان الصيام بمثابة لعبة أو تحد جميل على رغم ألمه بالنسبة لي". ويتذكر موظف شركة الكهرباء السعودي حسن البن أحمد صيام أطفال الحارة،"كنا نقاوم الجوع والعطش باللعب في الحارة، فمع بداية فترة الظهيرة نجتمع لنلعب الألعاب الشعبية ومن أبرزها كرة العنبر والطردة والتيل والعود وألعاب أخرى نضيع بها ما تبقى من الوقت الطويل بالنسبة لنا والذي كان يعد دهراً". ويضيف:"كنا نتباهى في ما بيننا على الصوم، وكان سمة للشعور بالرجولة الباكرة، ولا ننفك نختلق القصص على من لا يصوم، ومما أتذكر أننا أقنعنا بأن الصائم سيحصل في العيد على مبالغ أكثر في العيدية يمكن أن تتجاوز 100 ريال وهو مبلغ خرافي بالنسبة لأطفال جيلنا، الأمر الذي جعلنا نكذب الكذبة ونصدقها، وقصص خروج أم الخضر والليف أو السعلوّة لمن يترك الصيام وكانت هذه الحيل تفيد في السابق".