صلينا المغرب ودعانا أبو عجب، وهو كله عجب، إن قابلته ابتسم وشدك إلى فنجان على عجل، فإن دخلت داره وجدتها بالخير عامرة، أولاد نجباء، ومجلس يمتلئ بالفصحاء، يقصده أشتات الخلائق من كل الأنحاء، وحين دخلته للمرة الأولى سل مضيفي يده من يدي، ووثب فإذا هو حذاء رجل يمتليء شحماً ولحماً يلبس بشتاً وتتلامع ساقاه قد رمى عمامته من دون عقالها، وبدأ يكرر المشيئة، ويحمد المولى على أن أبا عجب صار في الدنيا عجباً، فبعد أن كان رويعي غنم، ها هو يرعى أهل العلم، ويدني في مجلسه أعلام الأدب. وهذا اليوم كانت حصة الشيخ في المجلس، وبعد أن تربع تسوك، فحمد الله وأثنى عليه أن أنعم علينا بنعمة الإسلام، وأرسل إلينا رسول السلام الذي سن لنا أربعاً، وعلمنا كيف نكون في خدمتهن، ننشط ونربع... ومضى يشرح حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، ورجعنا لهن نتسابق أينا الخير يديمه بينهن. وفي مغربية أخرى دخل علينا رجل طوال يذرع المكان، تومض عيناه ويتلمظ لسانه، وتتضارس أسنانه، قالوا هذا مدرس اللغة العربية، فابتدرنا بقوله:"إنهن الشقائق نصفنا الآخر وهن الأمهات وهن الزوجات بهن يكمل ديننا وتصلح حياتنا، وهن بناتنا وأخواتنا، ينبتن عفيفات". اعتدت مجلس أبي عجب الذي لم يجد هذه المرة من أحد سوى رجل جاء متأخراً يصلي أصلعاً فجره معنا، وأخذنا نمازحه لما رأينا عنده من تجارب قست عليها الحوادث... وحين تسنم صدارة الحديث قال:"مررت بمرحلة الإنسان، وأعيش الآن مرحلة الحمار، وستأتي مرحلة الكلب ثم القرد"! قلنا كيف تعيشها قال: منذ خمس وعشرين سنة، وأنا أعمل سائقاً عند عائلة لا ترعى لي حقوقاً، ولا تصرف لي راتباً، بل أنا الذي انفق، وهم يقدمون لي السكن والطعام، فإن رضوا عني قالوا رب البيت، وإن غضبت على نفسي وأرهقوني بطلباتهم قلت: بل خادم البيت... فدهشنا، واستقرت أبصارنا عند فمه ننتظر جواباً عن هذا السائق، ورب البيت والخادم الذي يعيش حماراً، ففهمنا أنه أبو العائلة التي يعمل لديها من دون أن تقدر خدماته فهدأ روعنا! وهذه الليلة وجدت في مجلس أبي عجب رجلاً مفتول الشاربين، واسع الصدر، قوي العضلات، لم يترك المتحدث يكمل حديثه بل قاطعه قائلاً: لأنهن ضعيفات عقل ودين، كثر المتطوعون لهن، المتبرعون بخدماتهم لهن... فهناك من يرقيهن، ويمسح صدورهن، وهناك من يفسر أحلامهن، ويقبض حلاوة كلامهن، بل وصل الأمر إلى جسدها! فحين امتهنت المرأة، ورضيت تلاعب الرجال بها تفننوا في ابتداع أشكال للهو بها كزواج المسيار الذي لا يقبله إلاّ الجبناء، واللصوص، ولا ترضاه إلا الضعيفة، تقضي به وطراً سيرميها في الشك ويجعل النظرة الاجتماعية إليها مهينة. وفي أحد الأيام هاتفني أبو عجب وكنت انقطعت عنه منذ زمن يحثني على ألا أفوت هذه الليلة، فسيأتي أبو المكارم مدرس السيرة، وتاريخ الأعلام، ولم أكن لأخسر مثل هذا الإغراء فجئت باكراً وأسندت ركبتي إلى ركبة الشيخ الذي بدأ حديثه بخديجة بنت خويلد رضي الله عنها تلك المرأة العظيمة التي وقفت سنداً وعوناً لأعظم رجل في التاريخ محمد صلى الله عليه وسلم، فقد دعته تلك المرأة العاقلة الحكيمة ليكون ضمن طاقم تجارتها، ثم لما عرفت فيه الأمانة والصدق، احتضنته زوجة، واسته بدفء المرأة الحنون، وكانت الزوجة الأخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هي عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما التي جسدت وفاء المرأة المخلصة، والعالمة التي نقلت لنا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وامرأة أخرى كانت مثالاً للقمم النسوية التي تحملت المسؤولية قبل الزواج وبعده، فقد ضربت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أروع نماذج المرأة العاملة، والأم المنتجة للأبطال حين شاركت في الإمداد والتموين، وحين صارت أماً خرّجت الشجعان، ونبذت أن يكون في أبنائها جبناء، أفليس هذا قمة إنتاجية المرأة؟ ومرة دخل علينا أبو عجب برجل متفرنج يلبس بنطالاً، ويضع على رأسه قبعة، وما إن جلس حتى تحدث بكلام مزيج تخرج الكلمة عربية فتعقبها خمس كلمات إنكليزية، فهو يستعين بلغة الخواجات على إفهامنا فكرته، وبعد تردد عرفنا أنه يعني احتياج الحضارة لنساء جريئات من دون حياء يزدن أرباح الشركات، ولم يملك من الأدلة غير تكرار قول الزهاوي الشاعر العراقي: اسفري يا ابنة العراق/ فالحياة تبغي انقلاباً! فابتدر الرد عليه شاب متحمس يقول: إن تكريم الإسلام للمرأة جاء بعد أن ضاقت ذرعاً بألوان الذل، والعبودية فقد كانت تدفن خشية العار، وتورث كالمال، وتحجر في نفسها فترد عن الزواج، ويحجز على مالها فلا يحق لها أن تديره من دون الرجل، فجاء الإسلام بإكرامها والتأكيد على العناية بها على لسان رسول الهداية، فقال صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بهن خيراً"... وشدد على اختيار الكفء لهن، ليس كفوءاً نسباً، فقط ، وإنما الكفء ديناً وعقلاً واقتداراً، ولماذا فعلاً كثرت العوانس؟ لأنهن لا يجدن الرجل، وإنما يجدن شبهه إن قام صار مدخنة، وإن نام تحول لركام، فلا يتحرك فيه شعور... أفيكون هذا أميناً على المرأة؟ فشتان بين مشرق ومغرب... ولذلك رفقاً بالقوارير اللاتي ربما تورطن في شكل بلا معنى: أيها المنكح الثريا سهيلا/ عمرك الله كيف يلتقيان/ هي شامية إذا ما استقلت/ وسهيل إذا استقل يماني ولتستفيد المرأة من الحرية الشريفة التي تعلو بها، لا التي تعود بها مكبلة إلى الحضيض، وامتهانها سلعة تباع وتشترى جعل للبيئة دوراً في الإصلاح ورفع المرأة، ولذلك حذر صلى الله عليه وسلم من المرأة في المنبت السوء فقال: إياكم وخضراء الدمن، والعرب تقول: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، فمهما كانت المغريات فإن المرأة العظيمة لا يمكن أبداً أن تكون سلعة تشترى بالدراهم، ولذلك استغربت هند بنت عتبة أن تزني الحرة حين سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع النساء على ألا يزنين... ومن حرص العرب على الغالي وأنفسه المرأة فإنها لا تودع عند أحد أمرين المرأة والتمرة، لأن أحدهما قوام الحياة والآخر قوام الشرف، وليس أعظم من الشرف، ففيه وله يحيا ويموت ويسعى ويقاتل ويبني البشر. ويتردد موضوع قيادة المرأة للسيارة، ويجيب العقلاء بهذا السؤال: هل حللنا كل قضايانا ولم يتبق إلا موضوع قيادة المرأة؟ إن قيادة المرأة للسيارة ليس هذا أوان مناقشته، وما الذين يتحدثون عنها إلا بسطاء انتدبهم محترفون مغرضون... ولو كانوا صادقين للمصلحة العامة لأنقذوا شبابنا من الإرهاب والمخدرات، لكن المشكلة في شبابنا العاطل الذي يعمل ليلاً في توليع الحجر ويتحول نهاراً لجثة لا تنفع أهلها، ما اضطر أهله للاستعانة بسائقين صاروا هم أصحاب القوامة في الأسرة. المرأة في السعودية وبلادنا الإسلامية ليست سخيفة حتى يسيرها يمنة أو يسرة زعيط وابن معيط، فهي تتمتع بعقلية جبارة كونتها عقيدتها العظيمة وعادات قبيلتها القويمة، تلك القبيلة التي لم تكن عاداتها بدعاً في الأمر، وإنما تكون ميراثها وتراكمت تقاليدها ممن ناصرت وآزرت في نشر رسالة الإسلام وجاهدت معه وبعده لتعلو أسمى الحضارات، وليس لها أن تتخلى عن نور أضاء العالم كانت هي مشعله لتنكفئ على ذاتها، وتعود القهقرى وعصر الغابة. وخلصت من مجلس أبي عجيب بأمر في المرأة أعجب هو أنها الهدوء والصخب، الوردة والشوكة، الخريف والربيع، الخواء والنماء الخصب، والقحل... وكل هذا بفعل معول الرجل، وما إليه تمتد يده، وإلا لما كانت الشقيقة، والقارورة التي تحفظ وتحمى من الكسر. [email protected]