تعتبر مشكلة الانطباعية من السلبيات التي تشوب العمل القضائي في أي مجتمع، ويمكن تعريفها بأنها الصورة الذهنية المغروسة مسبقاً لدى القاضي عن أحد أطراف الدعوى التي تعود إلى خلفيات فكرية أو عقائدية أو اجتماعية أو سلوكية لذلك الطرف. وتؤدي مشكلة الانطباعية إلى التأثير في الطريقة التي تتم بها معالجة القضية وتغيير أسلوب القاضي من التساهل إلى التشدد أو العكس، بل وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى التعاطف التام مع الطرف من دون آخر، وبالتالي محاولة تجاوز بعض الإجراءات التي كفلها النظام للمتخاصمين أياً كانت أشخاصهم أو صفاتهم. ومع الأسف، فإنك قد تجد من يبرر مثل هذه التصرفات بمبررات متنوعة لا علاقة لها بالشريعة أو النظام، كمحاولة إدخالها تحت مظلة السلطة التقديرية للقاضي، أو أنها من باب الحرص على حقوق المظلومين أو ردع المماطلين. لقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ? المائدة 8 ? ومعنى هذه الآية الأمر بتحري العدل مع أي طرف مهما كانت سيرته أو أخطاؤه أو نيته أو خلفياته السابقة، وذلك لأن العدل مطلب شرعي بذاته في كل وقت ولا يجوز تقييده بمصلحة معينة أو حالات محددة. إن هذه الآية الكريمة ينبغي أن تكون شعاراً لكل من يحكم بشرع الله، فإنه"ما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنونئين كما يكفله لهم هذا الدين، حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر، وان يتعاملوا معه، متجردين عن كل اعتبار... وبهذه المقومات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير، الذي تكفل نظامه للناس جميعاً ? معتنقيه وغير معتنقيه ? أن يتمتعوا في ظله بالعدل، وأن يكون هذا العدل فريضة على معتنقيه، يتعاملون فيها مع ربهم"? في ظلال القرآن ? ومما لاشك فيه أن الانطباعية السلبية التي قد يلمسها البعض في المجال القضائي تخالف قاعدة وجوب تحري العدل التي أرساها الله في الشريعة الإسلامية. وينتج من هذه المشكلة ظهور التصنيفات التي نسمع بها كتصنيف المحامين إلى فئات متعددة ، الورعين أو الفساق، المماطلين، أو غير المماطلين، المتعاونين أو غير المتعاونين، الأمر الذي يترتب عليه اختلاف التعامل معهم بمجرد معرفة التصنيف الذي ينتمون إليه، وفي بعض الأحيان يتم تصنيف المحامي بناء على الشخص الذي قد يتوكل عنه بغض النظر عن مشروعية الدعوى، أو الحقوق النظامية التي يطالب بها بل وقبل النظر فيها يتم تقديمه من طلبات أو دفوع في بعض الأحيان. إن النظم القضائية في أي مجتمع قد كفلت حقوق المتداعيين، ومن حق كل طرف منهم أن يستخدمها بالشكل الذي يريده طالما كان ذلك وفق الضوابط التي حددها النظام، وهذا هو مبدأ العدالة الذي جاء به الشرع، الذي أعطى ولي الأمر الصلاحية في سن الأنظمة القضائية التي من خلالها يتم الوصول إلى الحق، فلا يجوز للقاضي أو الخصوم تجاوزها لأي اعتبار كان. لقد أورد لنا التاريخ الإسلامي نماذج رائعة في أصول التقاضي يقف لها المتأمل إجلالاً، ومنها ما جاء في قصة الإمام علي بن أبي طالب ? رضى الله عنه ? لما وجد درعه عند يهودي، فادعى على اليهودي أمام القاضي شريح أن الدرع له فسأله القاضي: هل لديك بينة على ملكية هذا الدرع، فقال الإمام علي: ليس لدي أحد إلا ابني، فسأل اليهودي فقال اليهودي: الدرع لي وهو معي الآن، فقضى القاضي بأن الدرع لليهودي وليس لأمير المؤمنين فرضي الإمام علي بهذا الحكم. هكذا بكل بساطة ووضوح طبق القاضي شريح - رحمه الله - الإجراءات القضائية الشرعية على الطرفين من دون تعسف أو تردد، فلم يحاول التحري أو التشكيك في قول اليهودي، بل ولم يلتفت إلى ما يتبادر إلى الذهن من أن اليهود مظنة الكذب والاحتيال ? كما هو معروف - أو أن المدعي هو أمير المؤمنين وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المبشرين بالجنة، ولكنه نظر إلى الطرفين على أنهما مدع ومدعى عليه من دون أي اعتبارات أو انطباعات أخرى. إن العاملين في المجال القضائي بحاجة إلى استحضار مثل هذه الأمثلة التي ترسخ مبادئ العدالة والشفافية، وتؤكد أن الوصول إلى الحق فقط ليس هو المطلوب، وإنما المطلوب هو الوصول إلى الحق بطريقة عادلة. المحامي عبدالعزيز بن عبدالله المحيني [email protected]