ازدادت شكاوى المرضى تجاه الأطباء والمستشفيات أو المؤسسات الصحية خلال السنوات الخمس الماضية، بل بدأت الصحف الرئيسية في المملكة تفرد صفحات دائمة لموضوع الشكاوى والأخطاء الطبية، وكانت هناك ردود من المؤسسات الصحية أو المستشفيات تجاه هذه الشكاوى، لتفنيدها واحتواء الموضوع. وباتت شكاوى المرضى في السعودية بين سندان الواقع الطبي ومطرقة الرأي العام. وأصبحت الصحافة ساحة حكم الرأي العام، وفي جميع الحالات يتعاطف دائماً مع صاحب الشكوى أو المريض لاعتبارات إنسانية... لكن لماذا ازدادت شكاوى المرضى من قطاع الصحة في المملكة؟... هذا ما سنبحثه في هذا التقرير. مما لا شك فيه أنه خلال السنوات الخمس الماضية ازداد عدد المقالات الصحافية التي تتناول شكاوى المرضى تجاه الأطباء والمستشفيات أو المؤسسات الصحية، بل بدأت الصحف الرئيسية في المملكة تفرد صفحات دائمة لموضوع الشكاوى والأخطاء الطبية، وأصبحنا نجد ردوداً من المؤسسات الصحية أو المستشفيات تجاه هذه الشكاوى، لتفنيدها أو لمحاولة احتواء الموضوع، وأصبحت الصحافة ساحة حكم الرأي العام، وقد لا نكون مجافين للحقيقة إذا قلنا إن القارئ يتعاطف دائماً مع صاحب الشكوى أو المريض لاعتبارات إنسانية، ولكن السؤال المهم هو: لماذا ازدادت شكاوى المرضى من قطاع الصحة في المملكة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من عرض مثال حي يجعلنا نتفهم المنطلق الذي يجعل المريض في المملكة يشتكي، لعل أحد أهم أسباب الوفاة في المملكة هو أمراض القلب وعليه فلنأخذها مثالاً ونسأل الأسئلة الآتية: - ماذا لو أصيب الواحد منا ? لا سمح الله - بجلطة في القلب؟ - ما الاحتمال إن نقلنا الإسعاف للمستشفى خلال أقل من 8 دقائق وهو الزمن المقبول دولياً لنقل مرضى جلطة القلب؟ - ما الاحتمال أن يكون المسعفون في سيارة الإسعاف يملكون المعرفة والتدريب المهني الطبي لإبقاء المريض على قيد الحياة مثل إعطائه صدمات كهربائية أو أدوية منع اضطرابات ضربات القلب أو إدخال أنبوبة التنفس في القصبة الهوائية لإعطاء الأوكسجين؟ - ما الاحتمال أن ننتظر أقل من 30 دقيقة في غرفة الطوارئ الزمن المتعارف عليه دولياً لتلقي علاج مسيل للدم لإذابة الجلطة في شرايين القلب؟ - ما الاحتمال أن يتوافر سرير عناية مركزة لاستقبال المريض؟ - ما الاحتمال في حال فشل علاج تسيل الجلطة أن يوجد طبيب قلب مختص لوضع دعامة في شرايين القلب لفتح مجرى الدم داخل الشريان؟ - ما الاحتمال في حال عدم توافر هذا النوع من أطباء القلب أن ينقل المريض إلى مركز قلب قادر على توفير هذا النوع من الرعاية في أقل من 7 ساعات منذ حدوث الجلطة؟ بعد أكثر من 7 ساعات يموت ذلك الجزء من عضلة القلب الذي يغذيه الشريان المسدود بالجلطة؟ - ما الاحتمال في حال فشل الدعامة في فتح مجرى للدم أن تجرى للمريض جراحة طارئة لاستبدال الشريان المسدود بآخر من مكان آخر من الجسم؟ - ما الاحتمال أن يتمكن مستشفى خاص من تقديم ما سبق كله؟ - ما نسبة نجاح حدوث ما سبق خلال أقل من 24 ساعة ونجاة المريض من الجلطة القلبية ومضاعفاتها؟ لنحاول أن نجيب عن بعض مما سبق بالأرقام والإحصاءات الصادرة عن المملكة العربية السعودية: هناك دراسة صادرة عن المملكة وجدت أن الفترة الزمنية منذ بداية ألم القلب حتى وصول المريض لغرفة الطوارئ هي 5 ساعات، وهو زمن طويل جداً وأن الزمن اللازم لبدأ علاج تسيل الجلطة منذ لحظة وصول المريض لغرفة الطوارئ هو ساعة و35 دقيقة. Abba AA, Saudi Med J. 2003 Oct; 2410:1151; author reply 1151-2 وبدون الاسترسال كثيراً في موضوع الجلطة وعلاجها في المملكة فإن المثال أعلاه يبين أن مستوى أداء الخدمات الصحية في المملكة يتطلب تطويراً ليصل للمعايير الدولية، ومن ناحية أخرى هناك إحصاءات تبين أن الاخطاء الطبية بلغت تقريباً 26 ألف خطأ خلال الأعوام الستة الماضية د. عبدالعزيز العيسى -"الحياة"8 أيار/مايو 2007. ولعله من المهم ذكر أن المملكة صرفت أكثر من 31 بليون ريال سعودي خلال عام 2006 مقارنة ب23.1 بليون في عام 2005، ويمثل ذلك 9.3 في المئة من الناتج العام، وهذا الصرف وُجّه لبناء مستشفيات ومراكز صحية أكثر لمواجهة الأعداد المتزايدة من السكان والضغط الهائل المتولد على الخدمات الصحية، ومع هذا الصرف الضخم نجد أعداداً متزايدة من الشكاوى فما السبب في ذلك؟ ماذا يريد المريض في المملكة؟ لقد أصبح المواطن السعودي لا يهتم فقط بأن يتلقى العلاج، ولكنه أصبح يهتم بأن يحصل على علاج خلال فترة زمنية معقولة وبأقل نسبة من المضاعفات، وأصبح مستوى تحمله لأي خطأ طبي أو مضاعفات العلاج منخفضاً، ما يلقي بثقله على المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة ويجعلها تحت الضوء. كثير من إدارات المستشفيات تلجأ لحلول موقتة، تهدف لإرضاء المريض وامتصاص غضبه، وأحياناً تتم معاقبة أحد أفراد الفريق الطبي المعالج، ولكن كل ذلك لن يقلل من شكاوى المرضى، فالموضوع أعقد من أن تحله هذه الحلول الموقتة والمبسطة، وأيضاً يجب أن ندرك أن الحل الشامل والجذري يتطلب استراتيجية شاملة على مستوى المملكة، وتقويماً مستمراً لأداء مختلف القطاعات الصحية من جهة محايدة، لقياس مدى تطورها. لنرجع لما يطلبه المريض عندما يتوجه لأي قطاع صحي: إنه يطلب أن تعالج مشكلته الصحية خلال فترة زمنية معقولة وبأقل المضاعفات،إذاً هناك مصدران لشكوى المريض: طول الانتظار للحصول على العلاج، والمضاعفات الصحية أو الأخطاء الطبية المصاحبة للعلاج. طول قوائم الانتظار عندما نعرف أن سكان المملكة يتزايدون بمعدل 2.4 في المئة سنوياً، وهو معدل عال جداً، وعندما نعرف أن الزيادة في عدد أَسِرّة المستشفيات كانت بمعدل أقل لا يتناسب مع هذه الزيادة السكانية 1.4 في المئة أي النصف تقريباً، يمكننا أن نتفهم لماذا تولدت قوائم الانتظار، سواء لدخول المستشفيات ومراجعة العيادات الخارجية أم لإجراء الجراحة، ولعل الجانب الإيجابي هو أن قوائم الانتظار هذه أدت إلى حركة حثيثة أخيراً لبناء الكثير من المستشفيات، لكن السؤال هل سيحل ذلك المشكلة؟ في دراسة اقتصادية للقطاع الصحي في دول الخليج العربية، توقعت مجموعة ماكنزي الاستشارية ازدياد الطلب على الخدمات الصحية بنسبة 240 في المئة على مدى العشرين سنة المقبلة، وسبب هذه الزيادة الرئيسي هو ازدياد مرضى القلب والسكري، هذا التوقع ليس ببعيد، بل يعتبر متحفظاً، فالمملكة تعاني من ارتفاع نسبة المصابين بأمراض السكري، حتى بلغت في دراسة صادرة عن جامعة الملك سعود 24 في المئة من سكان المملكة. هذا معناه أن التوسع في البنية التحتية للقطاع الحكومي لن تتمكن من حل مشكلة قوائم الانتظار بصورة جذرية مهما كانت التوقعات متفائلة، وأيضاً يعني أن الشكاوى من الانتظار الطويل لن تقل، ومع انتقال جزء من الرعاية الصحية للمرضى من القطاع الحكومي للقطاع الخاص أخيراً نجد أن المواطن كثيراً ما يستخدم مستشفيات القطاع الخاص للحصول على تشخيص سريع لمرضه، ثم نجده يحاول قدر استطاعته نقل رعايته لأحد المستشفيات الحكومية لأسباب عدة منها مجانية العلاج وعدم ثقته بمستشفيات القطاع الخاص عندما يتعلق الأمر بعلاج يتطلب رعاية متقدمة، هذا إضافة إلى ضعف إمكانات معظم مستشفيات القطاع الخاص ومحدوديتها، ما يعني أن الضغط على المستشفيات الحكومية سيستمر، لا بل سيزداد في النهاية. إن الحل يكمن في تبني استراتيجية تفرض معايير ومدداً زمنية محددة لا يمكن تجاوزها لعلاج أمراض معينة، فمثلاً يجب أن يبدأ علاج أي حالة سرطان في أقل من شهر، هذا المعيار المهم تبنته الحكومة البريطانية، ما فرض على كل القطاعات الصحية في المملكة البريطانية إعطاء الأولوية لهؤلاء المرضى في العلاج مقارنة بأمراض أخرى، فمثلاً مريض السرطان يحصل على موعد أشعة مقطعية خلال أسبوع على الأكثر في بريطانيا، مقارنة بمريض يشكو من ألم في الظهر يُعطى موعداً بحسب ما يسمح به جدول المواعيد من دون فترة محددة يفرضها النظام. هناك استراتيجيات أخرى عدة ? خارج موضوع هذا المقال - يمكن وضعها وتبنيها لحل مشكلات الانتظار، خصوصاً إذا علمنا أن معدل نسبة الزيادة في معظم الأمراض ستكون 240 في المئة على مدى العشرين سنة المقبلة انظر الرسم البياني. الشكوى من المضاعفات الصحية والأخطاء الطبية هناك عوامل عدة تدفع المرضى للشكوى منها المضاعفات الصحية للعلاج ومنها الأخطاء الطبية، وهنا يجب التفريق بين الاثنين، فأي علاج تصاحبه أحياناً أعراض جانبية، وهو ما يطلق عليه المضاعفات الصحية، فمثلاً عند أخذ مضاد حيوي، قد يحدث شعور بالغثيان أو إسهال، وهذه المضاعفات ليست أخطاء طبية ولا يعاقب عليها النظام محلياً أو دولياً، ولعل مصدر شكوى المريض عند حدوث هذه المضاعفات خصوصاً بعد جراحة هو ارتفاع مستوى توقعاته - أي توقعه بعلاج خال من أية مضاعفات - وتفاجئه نتيجة لعدم إخباره بالمضاعفات المتوقعة قبل العملية، وقد يكون أيضاً جزءاً من المشكلة راجع للمعتقدات السائدة في المجتمع السعودي تجاه المرض والكم المحدود من المعلومات الذي يمكن للطبيب أن يخبر به المريض، فمثلاً علاج سرطان القولون يتمثل في الاستئصال الجراحي، وبعد استئصال الجزء المصاب من القولون، فإنه تعمل توصيلة بين طرفي القولون المتبقي، هذه التوصيلة معرضة لأن تسرب البراز بنسبة 5-10 في المئة، في أحسن المراكز الطبية الدولية، ما يسبب التهاباً في البطن وأحياناً الوفاة، وهنا نجد وضعاً صعباً، فعادة ما ترفض عائلة المريض أن يبلغ مريضها بأن لديه سرطاناً ما يعني أن المريض يوقع على موافقة إجراء الجراحة بناء على معرفة منقوصة، وأيضاً كثير من الأطباء لا يبلغ المريض بهذه المضاعفات الخطرة، خوفاً من رفضه للعلاج وأحياناً هربه، بل يخاف الأطباء أحياناً من الحديث عن هذه المضاعفات لاعتقادهم بأنها قد تعطي المريض اعتقاداً خاطئاً بأنهم غير ماهرين أو ناجحين في عملهم. وأسوأ مما سبق هم الأطباء الذين يذكرون أن نسبة المضاعفات لجراحة معينة هي مثلاً 1 في المئة أو صفر في المئة، وهم بذلك يعتمدون على دراسة صادرة عن مركز متقدم آخر غير مركزهم والأمانة العلمية تحتم عليهم أن يذكروا أن هذه النسبة المنخفضة للمضاعفات ليست نتيجة لإحصاءات صادرة عن المملكة أو عن مستشفاهم، بل عن مراكز وأطباء آخرين. وللأسف فإن المريض وعائلته عندما يشكون لإداريي المستشفيات بأن الطبيب أخاف المريض بكثرة ما تحدث عن المضاعفات أو أنه كان قاسياً نتيجة حديثه في هذا الموضوع، فإنهم يدفعون الطبيب لعدم قول الحقائق كاملة لتجنب شكوى مماثلة في المستقبل، لقد أقرت المحكمة العليا الأميركية في قرار مهم بأن العلاقة بين الطبيب والمريض هي عقد مبني على الأمانة في نقل الحقائق مهما كانت، وبناء عليه أصبح إجباراً على الطبيب أن يبلغ المريض بكل المضاعفات المحتملة لأي علاج أو فحص مهما كان، وهذا الأمر مطبق في المملكة على نطاق الأدوية الصيدلانية، ففي المملكة لا يمكن بيع أي دواء من دون أن تصاحبه مطوية تبين المضاعفات المحتملة لذلك الدواء، لكن هذا الأمر لا يطبق على أنواع العلاج الأخرى ولعل تطبيقه سيقلل من الشكاوى في المستقبل، فالمريض عندما يعرف أن هناك احتمال تسرب توصيلة القولون سيتقبل هذه المضاعفة عن حدوثها في حين أنه سيفاجأ بها ويشتكي إذا لم يعرف عنها قبل إجراء الجراحة. عدد الشكاوى هو مرآة لمستوى الرعاية الصحية المقدمة كثير من المسؤولين صرحوا في الصحف والوسائل الإعلامية المختلفة بأن هناك ما يقارب 500 ألف خطأ طبي ترتكب في الولاياتالمتحدة الاميركية، وأن الأخطاء الطبية في المملكة قليلة مقارنة بها، وهذا في الواقع تبسيط شديد للمسألة يجافي الواقع، فمن الصعب أن نثبت أن الأخطاء في المملكة أقل من الأخطاء الطبية في دولة متقدمة جداً في مجال الطب، فمثلاً هناك عوامل عدة نغفلها، تجعل من المقارنة شبه مستحيلة، فاستعداد المريض للشكوى في المملكة أقل منه في الولاياتالمتحدة الاميركية، ما يعني أن هناك كمية كبيرة من الأخطاء الطبية لا تحصى، ثم أن المقارنة يجب أن تتم بناء على النسبة إلى عدد السكان وعدد زيارات المستشفى. لقد سلطت الصحافة الضوء على الأخطاء الطبية، وولدت حركة في المجتمع تمخضت في النهاية عن وضع نظام لممارسة الأطباء، وتحديد المجرى النظامي لتناول أي خطأ طبي، فضلاً عن إنشاء مجلس معني بالجودة النوعية في القطاع الصحي، لكننا نخطئ إن اعتقدنا أن ذلك هو أهم خطوة لتقليل الأخطاء الطبية، فمربط الفرس في النهاية هو من يقدم العلاج للمريض ومدى كفاءته ومقدار خبرته. لننظر إلى آراء عينة من 600 مريض، استبينتهم مجموعة ماكنزي الاستشارية، بخصوص النظام الصحي في دول الخليج العربية وكانت غالبية العينة من مواطني المملكة العربية السعودية، لقد ذكر المرضى في إجاباتهم أن خدمات المستشفيات الحكومية ضعيفة وغير مريحة، وأن حقوقهم كمرضى ليست دائماً محفوظة، وبغض النظر عن مدى تحامل هؤلاء المرضى على المستشفيات الحكومية فإن هذه المشاعر تعبر عن ضعف الثقة في تلك المستشفيات، ما يدفع المرضى لكثرة الشكوى لأبسط الأسباب ناهيك عن الشكوى من مضاعفات أو أخطاء طبية حصلت. لن تقل الشكاوى إلا بارتفاع مستوى الخدمة الصحية إن توافر عناصر طبية ذات تدريب عال وخبرة مميزة ومتخرجة في مراكز علمية مرموقة هي المفتاح الحقيقي لتقليل شكاوى المرضى والأخطاء الطبية، 80 في المئة من الطاقم الطبي في المملكة هو غير سعودي، ومعظمه ليس من دول متقدمة ومميزة طبياً كالولاياتالمتحدة الأميركية وكندا وأوروبا ما ينعكس من دون شك على مستوى الرعاية الطبية المقدمة للمريض في النهاية، وبدأت تظهر أخيراً بوادر هجرة لكفاءات سعودية مميزة لخارج المملكة، نتيجة البيروقراطية في القطاع الصحي الحكومي، التي لا تكافئ الإنتاجية المميزة والعالية كما يحدث في القطاع الخاص. من دون شك العنصر البشري هو أهم عامل لنجاح وكفاءة وتميز أي نظام صحي، يضاف لذلك وجود إدارة خلاقة في نظرتها وحلولها لمشكلات ذلك النظام الصحي تبني استراتيجيتها على معطيات علمية وبيانات إحصائية دقيقة، وهو أمر نفتقده حالياً، المواطن أصبح يطلب منا خدمة علاجية ذات كفاءة عالية، وعلينا كمجتمع طبي أن نرقى لهذا التحدي، ونتعاطف مع طلبه، إن إنكار وجود مشكلة لا يحلها، ولا يقنع المواطن بعدم وجودها. * رئيس قسم جراحة القولون والمستقيم - مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث ? الرياض.