في الوقت الذي يتساءل فيه القارئ المحلي والعربي عن الشاعر السعودي الثمانيني، أين هو؟ وإذا كانت الكبوة التي تعرّضت لها الحداثة الشعريّة في التسعينات قد انحسرت، فلماذا لم يعاود شعراء تلك الفترة إلى الظهور؟ في هذا الوقت يخرج الشاعر عبدالله السميّح بديوانه الأوّل: المتدثّر بالبياض،إصدار نادي الطائف الأدبي، حاملاً معه في ثنايا شعره تواشجاً حقيقياً، تمتزج فيه خلفيّات التراث الشعريّ العربي، وبدايات الرومانسية العربيّة، وخطى التحديث التفعيلي، وتناول القصيدة لتفاصيل لهمّ اليومي والإبداعي والاجتماعي، في مزيج متّسق غير متكلف، من الأدوات الفنيّة التي تتلاقى في تجربة الشاعر العميقة. 76 نصاً شعرياً، هي مشتمَل ديوان"المتدثر بالبياض"صدى لتجربة شعرية دامت بضعة وعشرين عاماً، ولعلنا نعرض لمجمل مضامينها في هذا القراءة. لا يكتفي السميح بتقمّص الغرض الشعريّ القديم، كما في قصيدة الغائبون إذ يقول:" قال الذي ألوى بآثارهم/ وبات يستجدي نحيب الطلولْ/ ما منزلٌ مسّته آثارهمْ/إلا تلظتْ فيه نار العويلْ". لا يكتفي الشاعر بذلك، بل يتقمص المكان أيضاً. إنه يتقمص ويستحضر معاناة الشاعر العربي القديم، ليسقطها على واقعه الإبداعي والاجتماعي، فنجده في قصيدة"توقيعات على اللحن القشيري"يتقمص شخصية الإنسان الشاعر العربي القديم:"كنت قد كسّرت قيثاري/ وبعثرت الأغاني/ وترجّلتُ عن الوجناء/ خلّفت الندامى بذات الأين/ إن غادرني صبحي وأخلاني مكاني/ ونأى الربع بأيامي، وفي منحنى الخيبة واريت سناني". بيد أن هذه الحال لا تسيطرُ على طرح السميّح المتنوّع والمنفتح على الحياة كانفتاح ذاته نفسها، فنجده في قصائد أخرى يستحضر قدراته التصويرية في البيئي واليومي الحاضر، في أدوات لم تتناولها القريحة الشعريّة القديمة، لكنّه يعالجها بشخصية الشاعر الجزل، الذي يستطيع أن يصنع من كل المواد البيئية الأوليّة مادة شعرية موحية، نقرأ ذلك في قصيدة"الباب الموارَب": موارَبٌ بابها حزناً وقد هرِمتْ/ أطرافه واغتلى في صدره القلقُ/ يبكي الأصيل إذا مرّت نسائمه/ حياله ويساقيه الضنى الشفقُ".وفي قصيدة موكب الطفولة، يصف المشهد الطفولي اليومي، مراييل الصبايا المتّجهات بخطاهنّ البريئة صوب المدارس، فيحوّل هذه الصورة اليوميّة إلى نص شعريّ متجدد الموضوع، متّسم بجزالة والتزام كلاسيكيين. إن كل من يتعرّف على تجربة الشاعر عبدالله السميّح يلاحظ فيها منحى شكلياً، وهو الالتزام الإيقاعي التفعيلي، وهذا ما يجعل تحديثه الإيقاعي والموضوعي منضوياً تحت الأدوات الشعريّة ما قبل الحداثيّة، فلا تجد إغماضاً ولا قلباً للصورة الشعرية العربيّة المتعارف عليها، وبهذا يمكن أن يسمّى التجديد في شعر السميّح تجديداً داخل إطار الموضوع الشعري المعهود، فالشاعر بقدرته التصويرية والإيحائيّة يمنح المناسبة العائلية والاجتماعيّة والهم الإبداعي الفردي بعداً شعرياً تصويرياً بسيطاً، بعيدا كل البعد عن التعقيد الإنشائي الذي نلحظه في كثير من الإصدارات الشعرية المواكبة، وهذا ما يجعله قريباً من تجارب الحداثة العربيّة الأولى كتجربة أمل دنقل، لولا أن السميّح ينأى ويتعمّد -كما يبدو- النأي عن السياسي في طرحه الشعري، باستثناء قصيدة أم قصر وعندما يكتب اليومي أو الاجتماعي فإنه يكتفي بتحرّي الصدق العاطفي والصدق الشعري، في استكناه الحال الإبداعية وتحويلها إلى نص شعري. وفي قصيدة أخرى يتحدث فيها عن حال مرضية انتابت ابنته هناء: تئن هناء/ فيشتعل الهم ما بيننا/ فإذا بيتنا خيمة من شقاء/ وليل طويل بغير انتهاء/ وجوم وصمت رتيب/ وهمهمة بالدعاء/ عيون يجوس الترقّب فيها/ وإطراقةٌ/ تخالجها خطرات الرجاء". يتعشّق السميّح بحر البسيط عندما يكتب القصيدة التناظريّة، لكنه يحتدم في تفعيلة المتدارك والرّمل في كل قصائده التفعيليّة، وهذا مما يؤكد التأثر الدنقليّ في توجهه الإيقاعي كما سبق. من المعالم البارزة إلى جانب الهم الاجتماعي والفردي واليومي في شعر السميِّح، هو إبرازه للرفض الفردي تجاه السياق الجماعي، وهذه السمَة من معالم الشاعر العربيّ المهضوم بشكل عامّ، وإذا كان كثيرٌ من الشعراء الفاقدين للموضوع قد تعللوا بهذا السمة وامتطَوْها للوصول إلى تعاطف القارئ، فإن الشاعر عبدالله السميّح لا يتكئ على ذلك، بل يصوغ سخطه واعتراضه الفردي داخل نسيج شعريّ متكامل، ليس السخط الفردي فيه إلا لمحة عابرة لمعاناة الشاعر التي لا يمكنها أن تتجاهل همومه الوجودية تجاه الجدار الاجتماعي والثقافي، الذي يواجه حسه المرهف والواعي بغلظته المصمتة، وغالباً ما تتسم مقاطع هذا الغرض بالرمزية والإيحاء الشفيف، نختار من هذا المعلم بعض المقاطع من قصيدة السراب:"نادى السرابُ فلبّت كلّ بلقعةٍ/ ألوى بها بها الجدبُ واستشرى بها العدمُ/ غنّى الهباء على أصقاعها حقباً/ وظل يختال فيها سيله العرم/ يا صانع الوهم كم أجّجتها سفهاً/ وكم تباهت بما تستنّه النقمُ". التناوب بين الأنثى والوطن في قصيدة السميّح جليّ للعيان، وهو من الاستعمالات التقليديّة الأولى في نفس الشعر العربي في القرن العشرين، ولهذا نجد استحضار الأنثى/ الوطن، أو الوطن/ الأنثى، بقوّة في كل قصائد الديوان ذات البعد التغزليّ أو البوحيّ، ويتجلى ذلك في أولى الخطى، أي خطوة الإهداء في المقطع الشعري، تطالعنا الأنثى/ الوطن: للتي لم تزل شعلة في دمي/ كلما انتابني شبح الانطفاء/ نضحت جبهتي برذاذ النجوم/ وانبرت توهّج شوقاً وقالت: أنت لي أنت لي/ ملكٌ من ضياء".