أوجه خطابي في مقالتي هذه إلى قداسة البابا، رداً على تصريحاته التي نشرتها وسائل الإعلام حول الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم. هل يعلم سماحتكم أن دينكم أقرب إلينا من كل الأديان الأخرى، لقوله تعالى: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى؟ وهل يعلم سماحتكم أن الرسول الكريم ترك"ماريا القبطية"على دينها. وقال إكراماً لها ولقومها:"إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً". وذكر بعض المؤرخين أن الرسول عاصر بعض النصارى اهتدى معظمهم للإسلام في عهده، كان أولهم زوجته ماريا، وابن عم زوجته ورقة بن نوفل، وأم الحارث بن أبي ربيعة المخزومي واسمها سبحاء، التي ماتت على دينها وشيعها صحابة رسول الله، وأم عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان، وأم مصعب بن عمير - شهيد معركة أحد، وأبو قيس من بني النجار، وصهيب بن سنان، وقس بن ساعدة الإيادي - وكان أسقف نجران، وعدي بن حاتم الطائي، وسلمان الفارسي، والجارود بن العلاء. ولما جاء وفد نصارى نجران لم يمنعهم الرسول من إقامة صلاتهم في المسجد الذي كان يصلي فيه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. كما امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أداء الصلاة في"كنيسة القيامة"خشية أن يقتدي به المسلمون، فيتحول بكثرتهم المكان إلى مسجد، وكان رفضه للصلاة في كنيسة القيامة - عندما كان بصحبة البطريق"صفرونيوس"- لأنه كان يخشى أن يغلبهم المسلمون عليها وهذا يعتبر نقضاً للعهد الذي أبرمه معهم باحترام كنائسهم. وتأكيداً لذلك صلى في كنيسة"المهد"، وكتب عهداً خاصاً بهذه الكنيسة، ومنع المسلمين من دخولها بصورة جماعية، وبنى لهم مسجداً بجانب الكنيسة. وعندما شاهد عمر رضي الله عنه رجلاً من أهل الذمة يسأل الناس قال لخازن بيت المال:"انظر هذا وأمثاله واجعل لهم نصيباً مفروضاً في بيت مال المسلمين". حتى أنه رضي الله عنه هدَّم قسماً من مسجد لاعادته إلى امرأة نصرانية، بعد أن ضم دارها عمرو بن العاص لهذا المسجد كرهاً عنها، بعد أن رفضت قبض ثمنه أضعافاً مضاعفة. تمعن قداستكم ما كتبه الخليفة عمر رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها ألاّ تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. وإن كتاب الصلح هذا يشهد شهادة حق بأن الاسلام دين تسامح وليس دين إكراه. وعمر رضي الله عنه كان قادراً على أن يفرض عليهم ما يشاء ولكنه لم يفعل، لأنه يمثل الاسلام. والاسلام لا يُكره أحداً على الدخول فيه، ولا يقبل من أحد إيماناً إلا عن طواعية وإذعان لأنه من عمل القلوب، ولا يعلم ما في القلوب إلاّ الله سبحانه وتعالى. كما أن النصارى كانوا يدخلون من باب واحد مع المسلمين لأداء شعائرهم الدينية في الشطر المحاذي للمسجد الأموي أيام الفتوحات الاسلامية لبلاد الشام، وكان مكان المسجد من عهد الوثنية معبداً للشمس، وانتقل بأهل البلاد حين اتبعوا النصرانية فاتخذه أهلها كنيسة لهم، ولما جاء الاسلام بفتحه لدمشق شطراً بالسلم، وشطراً بالقتال والحرب، اختص المسلمون بشطر وبقي أهل النصرانية في الشطر الثاني. ثم لمثل ما كان منه رضي الله عنه في كنيسة القيامة كما سلف، ارتأى المسلمون أن يتم التخاصص بينهم وبين أهل النصرانية، باستقلال المسلمين في مكان المسجد الأموي، بمقابل استقلال أهل النصرانية بالكنائس الأخرى، وهذا ما تجدد بحثه كرة جديدة بين الطرفين من المسلمين والنصارى في عهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، حين ادعى أهل النصرانية أن لهم شطراً في مكان المسجد الأموي، فلما جيء بعقد التخاصص، وقال لهم عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه:"إن شئتم استعدنا حقنا في إشطار الكنائس التي بادلتهم عليها، فقالوا بل رضينا". وإن كان النصراني جاراً، فالرسول الكريم أمرنا بحسن الجوار: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره. ويجوز الإهداء إليهم كما أسلفت في حادثة عمر رضي الله عنه، ويجوز أيضاً قبول هديتهم، فقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدية ملك أيلة، وقبل كذلك هدية أكيدر صاحب دومة الجندل، وهدية المقوقس. كما تجوز عيادتهم، والصدقة عليهم، وتعزيتهم على الوجه المشروع. وكان بين سكان مكة عند ظهور الاسلام جماعة من النصارى هم من الغرباء النازحين إليها لأسباب، منها الرق، والاتجار، والتبشير، والحرفة. ويشير أهل الأخبار إلى ورود بعض الرهبان والشمامسة إلى مكة، وقد كان من بينهم من يقوم بالتطبيب، وحين أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بالرمد في عينيه أخذه جده عبدالمطلب ناحية عكاظ إلى راهب يعالج الأعين. والسلطان محمد الفاتح نجده ترك الحرية الكاملة لرجال الدين في عباداتهم وطقوسهم حين استولى على القسطنطينية مقر البطريكية الأرثوذكسية، فأعلن يومها تأمين سكانها من النصارى على أموالهم، وأرواحهم، وعقائدهم، وكنائسهم، وإعفائهم من الجندية، ومنح رؤساءهم سلطة التشريع، والفصل في الخصومات التي تقع بين رعاياهم من دون أن تتدخل الدول فيها. بل روى عدد من المؤرخين أن المسلمين كانوا يشاركون المسيحيين احتفالاتهم الشعبية في فترة الاعياد. وأن الطواف الذي يقوم به المسيحيون في احتفالات الفصح كان يبدأ في بغداد عاصمة الدولة الإسلامية من الكنائس وينتهي في قصر الخلافة. وروى ابن عساكر في تاريخه ان المسيحيين العرب وجدوا المسلمين لدى ظهور الإسلام اقرب إليهم من المسلمين في الغرب، فالاضطهاد الذي لحق بالمسيحيين في الشرق على يد البيزنطيين خلال القرون الثلاثة قبل الإسلام وإرغامهم على قبول فكرة إلوهية المسيح، كان السبب وراء انضمام المسيحيين العرب عن بكرة أبيهم إلى صفوف الجيوش العربية أيام الفتوحات الإسلامية، وان قرابة 12 ألف مقاتل مسيحي عربي انضموا إلى جيش المسلمين في معركة اليرموك. ان التسامح والمحبة والمودة والسلام هي الشعار الأول في الإسلام، فيجوز للمسلم مخالطة أهل الكتاب، والزواج منهم، واكل طعامهم: اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فطعام النصارى حلال إلا ما حرم بنص صريح. ان الرسول الكريم ص لم يحارب النصارى البتة في أي غزوة من غزواته التي قادها، وكان منهجه الدعوة بإرسال الوفد وبالرسائل، كما انه لم يرفض الحوار اطلاقاً وكان لقاؤه بوفد نجران لقاء الحوار، فطالما ان شعار الإسلام قول الحق: لا إكراه في الدين فهذا يفند مزاعم كل من يقول عكس ذلك، فنحن المسلمين نعلم علم اليقين ان الدار الدنيا هذه إنما هي دار ابتلاء واختبار، ومما لا يجوز معه القهر والإكراه على الدين: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، وقال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين، فإذا أجاز لنا الإسلام الزواج منهن والأكل من طعامهم ومعاشرتهم وإقامة علاقة تجارية معهم أفلا نحاورهم؟ إن مبدأ الحوار واجب شرعي لقوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن، والجدال هو الحوار، أما الحكم الرباني بين المختلفين من أهل الأديان فموعده في الآخرة لا في الدنيا لقوله تعالى: إن الذين امنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد. اذاً هذا الاختلاف يجب ألاّ يكون عائقاً في الحوار لأنه لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجاً، بل ان قضية الحوار هي الأصل في العلاقات الاجتماعية: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ولولا هذا التعارف والحوار لما وصل الإسلام إلى أقصى بقاع الأرض. حسن المجادلة في ديننا، الذي وصفه قداستكم بالشرير، أمرنا الله عز وجل ان يكون باللين ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، ونهانا عن ابسط إشارات عداء أهل الكتاب التي هي الشتيمة بقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إيذاء أهل الذمة، واعتبر حقهم كحق المسلم في شؤونهم ومعاشهم، وخلفاؤه من بعده اقتدوا به، وأمر تعالى المسلمين بالوفاء بالعهد للذين عاهدوه من أهل الكتاب اليهود والنصارى، عملاً بقوله تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً. وقد كان من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم:"إلا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة"، وقال صلى الله عليه وسلم كذلك:"من قتل معاهداً في غير كنهة، حرم الله عليه الجنة"، وقال محذراً وناهياً ايضاً:"من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وان ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً"، ونهانا صلى الله عليه وسلم عن إيذاء أهل الذمة، كما نهانا عن ظلمهم بقوله:"منعني ربي ان اظلم معاهداً ولا غيره"، وأمرنا الرسول الكريم بان نتأدب معهم أدب الإسلام الحق فقال:"إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم". إن دم الذمي كدم المسلم، فإن قتل مسلم احداً من أهل الذمة، اقتص منه كما لو قتل مسلماً، وروى عمر بن الحسن عن إبراهيم أن رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله فقال:"أنا احق من وفي بذمته"ثم أمر به، فقتل، وفي زمان عمر رضي الله عنه قتل رجل من بني بكر بن وائل رجلاً من أهل الذمة بالحيرة، فأمر عمر بتسليم الرجل إلى أولياء المقتول، فسلم إليهم، فقتلوه، كما قال علي كرم الله وجهه:"من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا". * مسلم إسباني