في قاعة كبيرة، تحت ضياء نيون ابيض، تلاقى"رواد الانطباعية"سيزان - مونيه - غوغان وفان غوغ... خلع هذا الأخير قبعته على عجل وجعلها لوناً زاهياً فوق طاولة مثقلة بالظلال. كانت القاعة تغص بالزائرات، غطى ملامحه وقال:"أنا ممتن لكن أيتها الفتيات، قلن لكل من يسأل عني إنني ضجر من ألواني، وها أنا أتدرب على لون جديد"... استدار مونيه عنه، ونظر في النهر:"لم يعد عندي ما أعطيت إياه سوى هذا"، وأشار إلى الماء ثم مسح بيديه على وجهه، كان هناك مراكب صيد صغيرة ومجاديف لينة تنقل رائحة الماء وأصوات خافتة تأتي من لوحات تشوقت لمن يراها. لوحات ذات أطراف خشبية يوحدها اللون البني، وكأنها تقول لناظرها:"سأقص عليك حكايتي، حنين البذرة إلى الثمرة، أن المعجبة بهؤلاء الفتيات الصغيرات، شكراً لهم يحملن في داخلهن ضوء يصاعد من أيديهن ويحيا غامقاً في ألوان وأسلوب تعبير ينعشك مثل بطيخة طازجة... حتى البحر فخور بهن، لذا تقدم وتفتح موجة موجة داخل لوحاتهن حديقة ورد تعبر، وساعة غروب تبتلعها العتمة، إنها الأنامل الصغيرة تزرع القمح في حقول فان غوغ، تطهو الطعام في مطبخ سيزان، تعبر شجرات خضر داكنة في غابته، تطرز زهرة دوار الشمس في مفارش، تخيط فساتين توجد في اللون لغة وفي الظل استدارة، تأخذك إلى الأصفر الذي إن هوى سيخرق صدرك أولاً، إلى أعماق السر وسط طاحونة قديمة، أصفر اخترنه ليلق ببصرك إلى البعيد وسط بحر النجوم المرصوفة فوق مقاعد مقهى عتيق، إلى غوغان الباحث عن الأرض المفقودة تحت ضوء شمس خط الاستواء. أمام اللوحات وكأنك تنتقل من حلم إلى آخر وتذكر أشياء أخرى متفرقة فيما ألوان"سلفادور دالي"تشبه التباساً أخيراً تم إطلاق الضوء في ألوان"ماتيس"الوحشية تصهل صهيلاً. فوق طاولة تزهو عند مدخل القاعة، قف، تفرج، تقرأ شرحاً لكل مدرسة فنية حفر على ألواح بلاكسي غلاس، وتستعيد آخر ما عرفته أواني، صحون فخار، وسيراميك، رسمت عليها لوحات تجريدية لكاندانسكي، رائد هذه المدرسة، مجسمات صغيرة وكبيرة مشغولة بقطع زجاج ملونة، وكان ألواح الزجاج سقطت فجأة، تناثرت الشظايا وتجمعت في مجسم يمثل زهرة النرجس، وحيدة كما أرادها فان غوغ لتمثل حياته التي عاشها قليلاً وعميقاً. الأجمل أن تكون داخل اللوحة الأفضل أن تعلق اللوحة على جدار القلب، لن تسألني عن النقش الذي حفرته الأيدي التي تصنع الجمال من مستهلكات بيئة بسيطة، بصاعقة واحدة ومن وميض فكرة يشع الجمال، ستتقافز أمامك في الهواء ساعات دالي تنطق تحاول تقييد الوقت وتذكرك بالساقط من عمرك. ضوء تفاحة في لوحة"سيزان"والضباب في شبكة أفكار مبهمة ترتعد داخل لوحات السيريالي، سلفادور دالي لعبور الصمت للإقلاع من الواقع لأجنحة الخيال. "نحب السلام، وننشده في صدورنا، كي نتمكن من النوم السريع"هذا ما تقوله بنات"مدارس نجد"هذا الصرح التربوي الذي أراد له الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يكون منارة تربوية يقتدى بها لأجل هذا تشدك لوحة بيكاسو الغارنيكا بالأبيض والأسود، تصور الحرب الإسبانية ببشاعتها، مفتاح واحد للعيش بسلام"الإسلام". خارج القاعة وفي غرف أخرى، زمن آخر، يبدو أن الطالبات تصر لتربك خصوبة يديها وتعدد ألوانها، خلطة لون بلون وكلام بكلام، هذا يعني كوناً مخلوطاً، بل سر هذا الكون يكمن في هذا الخلط الذي هو سر حيويته. إنها الأيدي التي تجعل اللوحة والأشياء تشي، تخبر، تقول، تدل، تنم، وتكشف فالأيدي حين تخفق في صنع الشكل تتحداه وهنا تكمن الدهشة. معرض مدارس نجد، يمثل مسيرة الزمن الحديث بأبرز ممثليها لذلك خصص كتاب شرحي زاهي الألوان، لعل الجرأة هي التي دفعتني إلى السير في طرح هذا الموضوع ومعالجته بحيوية وبلغة تشكيلية ذات مناخات لونية تريك اللوحة الواعدة والعبارة التي لا تنتهي بنقطة وإنما بنقاط عدة، المعرض حالة ضوئية تأخذك إلى أماكن مرئية وغير مرئية إلى البسيط والجوهري. القرن الواحد والعشرون يمتزج بالقرن التاسع عشر، بقي أن نقول إن لوحات هؤلاء الفنانين تباع حالياً بمئات الآلاف، بل بملايين الدولارات وتحرص على اقتنائها أعظم متاحف وقاعات العالم، بينما عاش هؤلاء حياة لا يحسد عليها فقراء العولمة في عالمنا المعاصر، ويبد أن ذلك هو قدر غالبية الفنانين، الذين يعيشون فقراء ومعوزين ويموتون جوعاً ومرضاً، بينما يحقق من يقتني لوحاتهم ثروات طائلة بعد رحيلهم.