لا تزال الضغوط متبادلة بين الدفاع ممثلاً في كثير من الأنظمة العربية الحاكمة والهجوم ممثلاً في الرغبة الغربية أو الأميركية تحديداً لإحداث صوره جديدة للمشهد السياسي في الدول العربية، وصولاً إلى الشرق الأوسط الجديد. فإذا كانت نتائج ال11 من سبتمبر 2001 أوصلت الفكر السياسي الأميركي إلى نقطة مفادها حتمية إجراء تعديلات إصلاحية واسعة النطاق على بعض النظم الحاكمة في الدول العربية لتتيح المزيد من الديموقراطية والمشاركة السياسية وحقوق الناس وحرياتهم في الرأي والتعبير وصنع القرار والعدالة والمساواة مهما اختلفت الأجناس أو التوجهات الدينية أو العرقية أو الفكرية وما يتبع ذلك من إصلاح في النظم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، ولهم الأميركيين في ذلك تبريرات وقناعات شتى، فإن هناك نظماً عربية حاكمة وجدت نفسها فجأة وصدفة على الطرف الآخر من طاولة الحوار، فهي الآن في موقف الدفاع عن صحة ونجاعة ما درجت على سلوكه في طريقة حكمها لشعوبها وأوطانها. وليس سهلاً على أي نظام قبول أن عليه أن يحدث تغييرات على غير إرادته مهما كان شكلها وإطارها العام. مؤلم جداً بل وجارح لكرامة بعض الأنظمة أن تجبر على تقديم أية تنازلات مهما كانت بساطتها عما تعتقد أنه مكتسبات، أصبحت بفعل الزمن حقوقاً لا يستقيم الولاء والطاعة من دونها، وعليها بُنيت ثقافة مجتمعية شاملة دينياً وشرعياً وقبلياً وحزبياً وتربوياً، إنها ثقافة الراعي والرعية! ثقافة العاطفة الأبوية المطلقة بما تتطلبه من طاعة وخضوع بل وخنوع. ولأن ذلك أصبح ثقافة مجتمعية شاملة فإنها تنطبق على الشعوب كما هي على الأنظمة، بل إن بعض الشعوب غرس فيها الخوف من القمع والتشريد الذي من الممكن أن تساط به من أنظمتها في ما لو كان لها أي توجه مغاير، إضافة إلى الخوف من الوقوع في محظور شرعي حسبما يراه علماء السلطة في تلك البلاد. الفئة الوحيدة في بعض دولنا العربية التي استطاعت اختراق هذا التابو هي الحركة السياسية التي اعتمدت على الإسلام كأيدلوجيا أو ما يسمون ب"الإسلامويين"والذين نجحوا بفعل عوامل تاريخية وثقافية ووجدانية في إقامة تنظيمات محكمة في مختلف البلدان العربية، بل إن تنظيم الإخوان المسلمين على سبيل المثال أصبح تنظيماً دولياً له ارتباطات وتشعبات معقدة. لكن هذه التنظيمات"الإسلاموية"الحركية كانت ولا تزال قابلة للترويض من أنظمة الحكم في مقابل بعض الامتيازات الانتهازية من الطرفين. وعطفاً على كل ما سبق فإن أنظمة عربية بنت دفاعاتها في مقابل الاتهامات أو الرغبات الغربية والأميركية في التغيير على ما ترى أنها حقائق غير قابلة للنقض في سبيل الوصول إلى تسوية مقبولة من الطرفين، تضمن لهذه الأنظمة البقاء والاستمرار المدعوم برضا وقناعة أميركا. هذه الحقائق تقول إن هناك فقط تيارين بديلين يمكن أن ينهضا في كثير من المجتمعات العربية جراء الضغوط الغربية للتغيير وهما: التيار الليبرالي وهو الذي يرضاه ويرغب فيه الغرب، لكن هذا تيار غير موجود أصلاً في نظر الأنظمة وإن وجد فإنه هامشي ومشتت وغير ذي جذور أو فاعلية ومرفوض بل ومكروه من الشعوب. التيار الإسلاموي الأصولي، وهو الذي يملك قاعدة شعبية كون العامة والبسطاء وهم أغلبية يعتقدون جازمين بصحة ما يرد على أنه ينطلق من أسس ومبادئ الدين الإسلامي حسبما يراه ويروجه ويستخدمه حركيو هذا الفكر. ومن خلال كل ذلك نخلص إلى أن هناك أنظمة عربية تقول للغرب نحن معكم نريد التغيير والإصلاح، ولكن النتائج ستفضي لا محالة إلى ما لا نحب أو تحبون، وعليكم الخيار إما نحن أو أنظمة تشبه حماس فلسطين أو إخوان مصر أو عدالة ومساواة المغرب، ويلمع خلفها بريق سيوف القاعدة ونظام إيران وحزب الله وجزاري الجزائر ومفجري قطارات لندن ومدريد وزرقاويي العراق. أميركا والغرب يدركون أن اللعبة سياسية في المقام الأول، ومن هنا بدأت التسريبات المكثفة بأنهم لا يمانعون في إجراء تفاهمات مع أي من هذه التيارات. الخاتمة تقول إن على هيئة الدفاع عن كثير من أنظمة عربية حاكمة الاعتراف والإقرار بأن وسائل الخداع والمراوغة لم تعد تجدي، ومن الأفضل أن تحتفظ بالبعض قبل أن تفقد الكل، وعليها أن تسعى بجد وإخلاص إلى دعم وتأهيل مجتمعاتها نحو توجهات تحديثية، لا تلغيها وإنما تعترف بها كأنظمة حاكمة لها شرعيتها وتريد مساعدتها في قيادة المسيرة نحو ما يخدم تطور وتقدم مجتمعاتها ودولها وإدماجها في المنظومة الدولية، بما تتطلبه من أساسيات لا بد منها دونما إخلال بالثوابت الرئيسية. وإذا كانت الضغوط الأميركية خفت أو خفتت أخيراً، فإن ذلك لا يعني مطلقاً أن هيئة الدفاع حققت النصر المؤزر، إذ يبدو أنها هدنة فقط لالتقاط الأنفاس والتقويم والمراجعة، فمتطلبات الإصلاح والتغيير أصبحت بفعل الزمن والضغوط منطبعة في الذهنية العربية والغربية، بل أنها وبفعل الانتهازية السياسية أصبحت حاجه ملحة أكثر من غيرها. * كاتب سعودي