يعيش ناشئتنا في زمن له خصائصه وسماته، فهذه وسائل الإعلام والاتصالات تقرب البعيد، وتجعل العالم مفتوحاً أمامهم، فينغمسون في صوارف لم تكن في تقدير الآباء والمربين، وتجدهم ? إن لم يتدارك أمرهم ? في بيئة تسهم في تنشئتهم على غير ذلك. ويعج عصرنا بالتيارات الوافدة التي تملك من طاقة التأثير ما يجعلها تستهوي الكثيرين لمتابعتها والإصغاء إليها، ما يؤدي إلى زعزعة الثقة في قيمنا، وإذا تركت امتنا أفرادها يتفلتون من التمسك بالثوابت المعهودة فسيكونون عرضة للتسيب والتميع. ولا يخفى على احد ما للمؤسسات التربوية من اثر كبير في إحصان هؤلاء الناشئة وتوجيههم إلى الخير الذي ينفعهم في دنياهم وآخرتهم. وتأتي المسابقات القرآنية لتكون محصناً يشع بالفوائد العلمية والتربوية التي تزود الناشئ بما يصقل شخصيته وعقله وتمنحه ضروباً من التكيف والتفاعل مع مجتمعه. لقد حرص ولاة الأمر والمربون عبر تاريخنا الإسلامي على مبدأ إشاعة روح التنافس بين الأفراد الذين يلونهم بالتربية والتوجيه والتعليم، وكان القرآن الكريم مظهراً من هذه المظاهر المتألقة، وكان السلف لا يقدمون على القرآن شيئاً، ولا يرضون لطالب العلم أن يخطو في طلب العلوم إلا بعد أن يحفظ القرآن الكريم. يقول الوليد بن مسلم:"كنا إذا جالسنا الأوزاعي، فرأى فينا حدثاً قال: يا غلام، قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ"يوصيكم الله في أولادكم"النساء:11 وإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم". وقد شرفت أمة الإسلام بهذا الكتاب العزيز، فما أحسن أن تتعاقب الأجيال على تدبره وحفظه، وقد وقف الحافظ ابن كثير على ما يفيده في قوله تعالى:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، فقال:"وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم الذي شرفه الله على كل كتاب انزله، وجعله مهيمناً عليه، وناسخاً له، وخاتماً له". وقد تكفل الله بحفظ كتابه العزيز، وذلك بخلاف الكتب السماوية الأخرى التي أصابها التحريف والتبديل"بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"البروج:22 وقال سبحانه:"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"الحجر:9، ونقل إلينا بطريق التواتر القطعي. وتحدث الإمام القرطبي عن قوله تعالى:"ولقد يسرنا القرآن للذكر"القمر17، فقال:"سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه، فيعان عليه؟". وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفاضل بين أصحابه في حفظ القرآن، ويقول:"وليؤمكم أكثركم قرآناً"، ولما اجتمع شهداء الصحابة قدم في اللحد أكثرهم قرآناً. وما من ريب أن المسابقات القرآنية تمنح المشتركين فيها فوائد جمة، منها: أنها تثير الملكات الكامنة، فكم من ناشئ تبين لأبيه، أو أستاذه أن لديه طاقة عالية في استيعاب الحفظ، ويمكن توجيهه لحفظ المتون العلمية المتعددة، وبذلك يكون تفوقه في المسابقات القرآنية دليلاً ساطعاً على إمكان تنمية مداركه وترقيتها. ومن فوائدها أن تشجع الناشئ على لقاء الآخرين من أساتذته وزملائه فتحقق له تكيفاً صحيحاً، وتزيل حواجز التفاعل مع الآخرين، وإذا أضيف إلى برامج هذه المسابقات شيء من التفسير تضاعفت الفائدة المرجوة وتحقق للمشترك علم ينفع، وذلك لأن الحافظ قد يسأل عن معاني الآيات التي يتلوها، فتكون له سانحة طيبة للخروج من هذه المسابقات بالحفظ والتفسير. ومن فوائد هذه المسابقات المباركة أنها تمنح المشتركين فيها علماً يلزم تعلمه، وهو علم التجويد الذي هو أداء التلاوة، ولا يقبل منظمو المسابقات عادة متسابقاً اغفل قواعد هذا العلم، وفي ذلك دافع له ليرتبط بشيخ يساعده في كسبه، ولا يخفى على احد الثمرة الذي يجنيها المجتمع من توافر العدد الكبير من الناشئة الذين يتخرجون في هذا المضمار، فهم غالباً ممن نشأ في طاعة الله، لأن القرآن الكريم أدبهم وهذبهم، والمفترض في الحافظ أن يكون قد تلقى القرآن قلباً ولساناً، وظاهراً وباطناً، وصلحت نيته لله عز وجل، وفي الحديث:"عندما سئلت السيدة عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجابت:"كان خلقه القرآن". جزى الله خيراً أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي ما فتئ يحرص على ما فيه خير لناشئتنا، وقد وجه حفظه الله إلى تنظيم فعاليات هذه المسابقة، تقديراً للأثر البالغ الذي تتركه في صفوف الفتيان الذي ينتظمون في دورتها. أ.د. محمد العوفي الأمين العام لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف