كشفت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر أن رأس المال الديني الشعبي يمكن ان يوظف على نطاق واسع في إحداث تغيير سياسي ذرائعي أو تصعيد وتيرة الاحتجاج الديني، على رغم أنه لا يمتلك مشروعاً سياسياً حقيقياً. ويأتي ذلك في وقت قررت فيه غالبية الطبقة الوسطى الانصراف عن الحياة السياسية بعد انحسار المشروعين الليبرالي والقومي، على رغم كل نداءات الإصلاح والتغيير السياسي. وأزاحت المناسبة الانتخابية الستار عن طبيعة الجماهير التي تستند إليها النخبة الجديدة الصاعدة التي تضم أساساً منتجي الشأن الديني على الجانبين الإسلامي والمسيحي الذي صار مغلفا بطابع خدماتي، يجمع بين الدنيا والدين في فصل من فصول الدراما السياسية المصرية. الفئات التي لجأت إلى بيع أصواتها الانتخابية، وشارك بعضها في أعمال البلطجة المأجورة, تتألف أساساً من فقراء خارج أي مظلة أمان اجتماعي حقيقية. فتعداد الفقراء في مصر يقدر بنحو نصف سكانها، ويعيش نحو خمس المصريين في فقر مدقع وفق المعايير الدولية. ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي بدأت الدولة مسيرة انسحاب تدرجي من مجال تقديم الخدمات العامة، زاد من وتيرتها برنامج التكيف الهيكلي الذي تبنته الحكومة منذ مطلع التسعينات. وكان واضحا أن الهيئات الدينية - الإسلامية والمسيحية - هي الأقدر على ملء الفراغ الذي تركته الدولة، بحكم ثقلها الاجتماعي وأرصدتها المالية وتماشيها مع الثقافة الشعبية التقليدية. وبدلا من أن يتشكل رأس مال اجتماعي في صورة منظمات مجتمع مدني نشطة تستند إلى الثقة والمشاركة وتضطلع بمهمات التنمية وتقديم الخدمات على أساس مدني، تبلور رأس مال ديني تغذيه مساحة التدين الفطري في المجتمع وزحف الدين على الحياة العامة، وبات الفقراء يجدون حاجتهم المادية والروحية معا في الدين، وتحولت - تبعا لذلك - الجماعة المرجعية الدينية بالنسبة للمسلمين، والمؤسسة الدينية الكنسية بالنسبة للمسيحيين، رابطة أساسية أولية تسمو على الدولة ذاتها، وصارت حاضنة لولاء قطاعات عريضة من المواطنين زادت من اغترابهم عن المجال العام البيروقراطية العنيدة والجمود السياسي وسوء تعامل الأجهزة المحلية والأمنية معهم. في البداية كانت الدولة تشعر أن ثمة عبئاً رفع عن كاهلها، لم يكن في استطاعتها التعامل معه، وفي الوقت نفسه لم تكن تقوى على مواجهة احتجاجات شعبية عارمة. ونظرا الى أن النشاط الاجتماعي الديني لم يكن يحمل مشروعا سياسيا واضحا، شعرت أجهزة الدولة بقدر من الاطمئنان المرحلي في التعامل مع هذه الظاهرة المعقدة. وفي هذا السياق، لم تكن الجمعيات الأهلية الدينية تخضع لضغوط أو تواجه تحديات في التعامل مع وزارة الشؤون الاجتماعية, حتى في ظل القانون 32 لسنة 1964 الذي أخضع الجمعيات الأهلية للوصاية الحكومية، ولم تعترض حصول هذه الجمعيات على تمويل خارجي مشكلات واضحة، إذا قورنت بالمشكلات التي واجهت الجيل الثالث من المنظمات الحقوقية التي ظهرت منذ منتصف الثمانينات. وأفادت جماعة"الإخوان المسلمين"من حال الحظر القانوني والأمني المفروضة عليها في التنصل من كل ما من شأنه أن يخضعها لرقابة الدولة، فهي ليست جمعية أهلية يطاردها قانون الجمعيات، كما إنها ليست حزبا سياسيا يخضع لقيود قانون الأحزاب، وكانت ولا تزال - على رغم ما يبدو من ملاحقات أمنية ومحاكمات - أكثر حرية في التعامل مع المجتمع، فتمكنت من بناء شبكات اجتماعية واسعة تغلغلت من خلالها في النسيج الاجتماعي للمجتمع، واستطاعت توظيف الأحداث العالمية والمستجدات الداخلية بمهارة في خلق حال مركبة تسمح لها بمزيد من الانتشار والتغلغل. وتمكن"الإخوان"من تعميق الشعور بالاغتراب السياسي لدى المواطن البسيط في تعامله مع مؤسسات الدولة من خلال تضخيم مشاهد الفساد والانفلات وإعادة إنتاجها من جهة, وتصوير الدولة تابعاً للغرب، خصوصا الولاياتالمتحدة، من جهة أخرى, ما جعل النخبة السياسية الراهنة في ذهن الكتل الفقيرة والمهمشة"فاسدة"و"مترهلة"و"تابعة"تنبغي إزاحتها لمصلحة النخبة الجديدة. وساعد على ذلك تفشي موجة من المحافظة الدينية على الصعيد الاجتماعي على نحو غير مسبوق. ففيما استطاعت الدولة خفض مستويات العنف على أساس ديني في السنوات الأخيرة، سمحت في الوقت نفسه بانتشار موجات من المحافظة الدينية امتدت إلى شرائح من الطبقة الوسطى العليا من خلال ما يعرف باسم"الدعاة الجدد"? أما المؤسسة الكنسية فوجدت نفسها منذ منتصف السبعينات بين مطرقة دولة شبه دينية يرسي الرئيس أنور السادات دعائمها، ومشاعر احتقان وانسحاب مجتمعي متزايدة لدى الأقباط. كان الخيار أن تتحول الكنيسة مؤسسة شاملة تحتضن النشاطات الاجتماعية لروادها, إضافة إلى خدماتها الدينية, وتمكنت من توفير شبكة أمان اجتماعي لأبنائها الذين بدأوا يعانون, شأنهم شأن غيرهم, من الفقر والبطالة والتهميش. لكن الكنيسة لا تمتلك مشروعا سياسيا بمعنى الكلمة، الا انها كانت, ولا تزال, تتصدى لمطالب حقوقية عامة للأقباط، وتحولت مؤسسة ذات ثقل عام, سواء في علاقتها بالدولة أو بأبنائها على حد سواء. في الفترة الأخيرة، بدأت النخبة الجديدة تبحث عن موطئ قدم في الحياة العامة وفق آليات وعلاقات جديدة، لا سيما أنها تستند إلى رأس مال ديني شعبي لا يتمتع به الحزب الحاكم نفسه، وتمتلك قدرات تنظيمية واتصالية تفتقر إليها الدولة المصرية في كثير من الأحيان, فاتجهت إلى التعبئة من خلال الفرز الطائفي. وهنا تبدو مفارقة مهمة: ففيما يستند رأس المال الاجتماعي إلى العضوية الاختيارية التي تتعدى الانتماءات الأولية, العشائرية والقبلية والدينية، يتمحور رأس المال الديني في الأساس حول مفهوم الجماعة الدينية في مواجهة"الأغيار". في الاحتجاج الشبابي القبطي في ما سمي أحداث جريدة"النبأ"عام 2001، وحادثة السيدة وفاء قسطنطين عام 2004، تبين ان الوقود الأساس لرأس المال الديني المسيحي الاحتجاجي هو الشباب الذي يعاني بطالة وعزلة وفرزاً طائفياً وظروفاً معيشية قاسية? ويشير تأمل الخريطة الاجتماعية لهؤلاء إلى أن معظمهم من الفقراء والمهمشين، وليس لديهم مشروع سياسي حقيقي، لكنهم تحركوا بدافع من المكبوت الطائفي في إطار المؤسسة الكنسية التي تحولت إلى عالمهم الجديد. وظهر واضحاً في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ثقل رجال الكنيسة في التعبئة الجماهيرية خلف الرئيس حسني مبارك ومرشحي الحزب"الوطني"، على نحو أدى إلى حدوث ما يشبه الانتقام الشعبي منهم في بعض الحالات. على الجانب الإسلامي، تمتع مرشحو"الإخوان المسلمين"بتأييد شعبي في الأوساط الفقيرة التي استطاعوا أن يرسوا فيها دعائم شبكات أمان اجتماعي. ويثبت انخفاض نسب التصويت في المدن وارتفاعها نسبيا في الريف أن الفقراء لعبوا دورا في تأييد"الإخوان". وهؤلاء كانت تكفي لضمان تأييدهم, الشعارات الدينية البراقة والخدمات الاجتماعية السخية وشراء أصواتهم إذا لزم الأمر, وهم, أيضاً, لا يمتلكون مشروعا سياسيا حقيقيا، لكنهم يحتفظون داخلهم بمكبوت من الاحتجاج الاجتماعي، يضاف إلى احتقان طائفي يشعر به قطاع من المسلمين بسبب محاولات تصدير الهزيمة إليهم، وتصوير الدولة بمظهر العاجز عن حمايتهم وصد المؤامرات التي تحاك ضدهم من العالم الغربي"الصليبي"? الإشكالية بوضوح أن الدولة حاصرت على مدار أكثر من خمسة عقود المجتمع المدني، وكبلت حركته بعوائق قانونية وإجراءات بيروقراطية وقيود أمنية، فحالت بذلك دون إنشاء رأس مال اجتماعي حقيقي يقوم على العضوية الاختيارية، ويعزز الثقافة الديموقراطية والمشاركة الإيجابية المبنية على الإيمان بقضية أكثر من الانتماء الديني. لم يحدث هذا في وقت تمدد رأس المال الديني وزاد ثقله، وتنازلت له الدولة - مجبرة - عن جزء من وظيفتها في مقابل الحفاظ على استقرار شكلي. اليوم, تحول رأس المال الديني قوة احتجاج على الصعيدين الإسلامي والمسيحي، ما يشكل أساسا شعبيا للنخبة الجديدة الصاعدة. * كاتب مصري