لم تكن سوق القيصرية وسط مدينة الهفوف مجرد سوق يرتاده أبناء محافظة الأحساء وبعض المناطق الأخرى في السعودية ودول الخليج، بل شكل"ركناً في ذاكرة"الأحسائيين، حتى كوّن صورة تاريخية لذاكرة تعود إلى ما قبل 150 سنة أو أكثر، من علاقة يسودها الدفء والود والحميمية. بيد أن ما قطع صوراً من هذه الذاكرة هو حريق أتى على أجزاء كبيرة من مبناه، ووصل إلى أكثر من 250 محلاً من أصل 421 قبل أربعة أعوام ونصف العام، فتمت إزالة مبنى السوق كاملا 6500 متر مربع من جانب بلدية الاحساء في شهر أغسطس الماضي، ضمن مشروع لإعادة إعماره. غير ان سؤالاً يراود مخيلة البعض في الأحساء: هل تعود القيصرية كما كانت بشعبيتها المعروفة؟ وما زالت أسباب الحريق مجهولة، بعد أن التهم الإرث والطراز المعماري القديم للسوق، في تصميم يعود إلى عشرات السنين، وتحديداً إلى ما قبل عام 1862م، وان كانت مصادر تاريخية تشير إلى ان السوق بني في عهد الدولة الجبرية التي كانت موجودة قبل 900 عام. ويصل عدد المحلات التي تملكها البلدية في السوق إلى نحو 170، تمثل 47 في المئة. أما المحلات الأخرى 251 محلاً، وتمثل 53 في المئة فملكيات خاصة، تتراوح مساحة كل منها بين 4 و12 متراً مربعاً. والقيصرية عبارة عن صفوف من المحلات التجارية، تتخللها ممرات مغطاة، وبين كل مسافة يوجد ممر عرضي من 2,5 إلى 3,5 متر. وليس للقيصرية مدخل محدد، الا انه يتكرر عقد نصف دائري في الواجهة التي تعلو العقود المجاورة، لتأكيد الممرات الجانبية، والتي تقود إلى مستودعات المحلات والحارات السكنية، وأحياناً تمثل بعض الممرات نهايات مغلقة لها عدد من المحلات. وبنيت القيصرية بالحجر الجيري والطين لحوائط حاملة تبلغ سماكتها 60 سنتيمتراً، والسقف محمول مباشرة على الحوائط الحاملة، ومكون من عوارض من جذوع النخيل أو خشب شجر الكندل، وعليها حصيرة سعف النخيل، تعلوها طبقة طينية، وطُليت الواجهة بالجص. اما الجزء الثاني فهو عبارة عن ثلاثة صفوف فقط، امامي واثنين متقابلين، بينهما ممر واسع نسبياً، وتصل نهايته الجنوبية إلى المكان التي كانت توجد فيه بائعات الصوف والغزل وسوق التمور سابقاً. ويعد السوق من أقدم الأسواق الشعبية في المنطقة الشرقية والسعودية، ويباع فيه كل ما هو قديم، فتجد العطارين ومحلات الفرش والمشالح والعطور والتحف النحاسية والمواد الغذائية والأدوية الشعبية والملبوسات والسجاد والمقتنيات القديمة. وكانت ترد إليه البضائع قديماً عن طريق الجمال من ميناء العقير، الذي يعد واحداً من أقدم الموانئ الخليجية. وللسوق شعبية كبيرة لدى المتسوقين في الأحساء، ومن مختلف المدن السعودية والخليجية والعمالة الوافدة العربية والأجنبية. والقيصرية ذو طابع فريد في بنائه، ويشبه ما كانت عليه الأسواق في تركيا العثمانية وبلاد الشام، والتي حمل بعضها الاسم نفسه، وكان له دور في حركة التجارة والاقتصاد، الذي جذب عدداً كبيراً على مستوى الجزيرة العربية. وتشكل القيصرية بيئة عمرانية تسوقية، لضخامة المبنى وتشعباته والتصميم المعماري، والدقة في استخدام المواد كأسقف"الكندل"، من حيث التصميم المعماري، إضافة إلى أنها تعتبر أكبر سوق مغطى في السعودية والخليج، ما جعله بؤرة اقتصادية ومركزاً حيوياً. كما تتنوع فيه البضاعة المعروضة تحت سقف واحد. وكذلك يعتبر السوق إرثاً تاريخياً وعمرانياً وسياحياً، باعتباره مورداً اقتصادياً، واستيعابه أنشطة تسويقية وحرفية مختلفة. وقبل وقوع كارثة الحريق في شعبان من عام 1422ه بدأ الإهمال يطال السوق، ويكشف المهندس عبدالله الشايب المهتم في التراث المعماري للمنطقة الشرقية، ورئيس فرع الجمعية السعودية لعلوم العمران ان"القيصرية اخذت في التدهور بتسارع كبير، ويتمثل ذلك في إزالة التشريفة على الواجهة، وعدم صيانة الحوائط والواجهات، بل تعداها إلى نحت الأجزاء الداخلية منها، واختراق الأسقف، لعمل مستودعات على الحوانيت، وعندما ينهار جزء من السقف فإنه يعاد بالهنجر. وهكذا". السوق من أهم المواقع الثقافية والعمرانية وكانت الهيئة العليا للسياحة في السعودية، قامت مطلع عام 1422ه بمسح شامل لمواقع الثقافة والتراث العمراني في السعودية، كان من أبرز نتائجه تصنيف سوق القيصرية ك"أحد أهم المواقع الثقافية والعمرانية التي ينبغي المحافظة على استدامتها وتوظيفها سياحياً". وعملت الهيئة مع السلطات المحلية بعد الحريق الذي شهده على إعادة بناء السوق، وفقاً للطابع التراثي ذاته، لما يحمله من أهمية تاريخية واقتصادية. كما قامت الهيئة بالتعاون مع الجهات بمناقشة بدائل تطوير السوق، وأسفر ذلك عن تشكيل فريق من المختصين من الهيئة العليا للسياحة، والبلدية، وجامعة الملك فيصل لدراسة البدائل المقترحة لتطوير سوق القيصرية، وإعادة تأهيله. وتم الاتفاق على إعادة إعمار السوق، كما كان عليه سابقاً، باستخدام مواد البناء المحلية، والمحافظة على حدود الملكيات، وإعادة توزيع الأنشطة داخل السوق كما كانت عليه، وان يستوحى التصميم من المظهر الأصيل للسوق، من حيث الشكل والتفاصيل المعمارية، وقد كلف استشاري بإعداد التصميم والرسومات التنفيذية للسوق". كما تبنت الهيئة بالتنسيق مع بلدية المحافظة فكرة ربط القيصرية مع العناصر التاريخية والثقافية والعمرانية في وسط مدينة الهفوف، بحيث تعكس في مجملها مركز مدينة الهفوف التاريخي. ويجري العمل حالياً بالتنسيق مع بلدية الأحساء على إعداد دراسة لمركز مدينة الهفوف التاريخي، ويشمل ذلك سوق القيصرية وقصر إبراهيم والمدرسة الأولى بالهفوف والأحياء التاريخية. ووضع الوسائل الملائمة لإعادة تأهيليها وتوظيفها، لتساهم كعناصر مترابطة في إعادة إحياء الوسط التاريخي للمدينة، وتوظيفه لاحتواء الفعاليات التراثية، وتسويق المنتجات المحلية الحرفية"ما يؤمل ان يكون عنصر جذب سياحي اقتصادي ثقافي مهم، الذي بدوره يعزز قدرة المدينة على توفير فرص عمل للمواطنين. وبعد ما خسرت الأحساء أحد المعالم السياحية والأثرية. ما زالت الخسائر تلقي بظلالها على أصحاب المحلات التي تقدر خسارتهم بالملايين. وتقدر القيمة التسويقية للقيصرية ببليون ريال 267 مليون دولار قبل الاحتراق. وقدرت البلدية الخسائر حينها ب 200 مليون ريال 53 مليون دولار. فيما ذكر الأهالي ان الخسائر تفوق هذا التقدير.