محطات حياتي متنوعة ... قد تكون فشلاً وقد تكون نجاحاً وقد تكون غير ذلك. وأنا أتأمل حياتي بعد تقاعدي أرى أنها هي التي جاءتني ولم أسع إليها، فقد دخلتها بسيطاً لأب بسيط وتسلحت بالعلم والإيمان فانتهت بي أن تركت العمل بها - حكومياً - وأنا في مرتبة وزير. حاولت أن أضع فيها بصمة وأن أترك أثرًا خيّرًا فعساي أن أنال ما تمنيت. هذا هو موجز حياة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد الرئيس العام السابق لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... من خلالها نتلمس زهده وعدم شغفه بالحياة، وكان لتخصصه الشرعي وتمكنه من أصول الفقه دور كبير في تشكيل فكره وأداء عمله. دعونا نقف وإياكم على ابرز محطات حياته لنتلمس زخم خبراته وإنجازاته: حياتك العلمية... كيف عشتها؟ - عشت حياة عادية بسيطة ودرست الابتدائية وما بعدها وتفوقت فيها حتى وصلت إلى كلية الشريعة في الرياض، واستمر نجاحي الدراسي فيها، وهو ما مكنني من مواصلة الدراسات العليا حتى وصلت إلى الدكتوراه. وأذكر في مرحلة الماجستير أن تحصيلي العلمي تأثر بعض الشيء، فقد كنت أدرس وأعمل وأعول أسرة وكانت تجربة عصيبة عليّ حاولت الخروج منها بأقل الخسائر فلم أحصل إلا على تقدير "جيد"! ولكن عوضت هذا في مرحلة الدكتوراه فحصلت على مرتبة الشرف الأولى. في دراستي لم أكن أكره مادة دراسية بعينها، وإن كنت لم أجد نفسي مرتاحاً لمادة العروض في المرحلة الثانوية، أما في المرحلة الجامعية فكانت ميولي فقهية وكنت أستمتع بها، ولكن كان لمادة أصول الفقه نصيب من الكراهية وذلك ناتج من أنها عقلية وكثير ممن كتب فيها من أساطين المعتزلة ولهم شطحات في الاعتقاد كثيرة، وكان التشكيك في كثير من الأمور هو ديدنهم، وهذا ما جعلني أتردد في التعمق مع الأساتذة في ذلك. مما اذكره تلك الأيام أنني مع زميل لي ما زال موجودًا كنا نترصد أي أستاذ في الكلية يحيد عن الطريق والمنهج بشطحات لا يُسكت عنها فكنا نرفع الشكاوى ونزعج المسؤولين حتى يتخذ إجراء بحق المدرس بأخذ تعهد عليه بعدم تبني هذا المنهج. ثورة الشباب فترة شبابك كانت تموج بكثير من التيارات... كيف تعاملتم مع تلك الفترة؟ - في مرحلة الشباب كانت تموج في المنطقة موجات التحزب بين طلاب الثانويات والجامعات وكان التيار الناصري الاشتراكي هو سيد الساحة وصاحب الجماهيرية، وكانت المناقشات حادة وحارة بين أصحاب التيارات، وكنت أشارك فيها على استحياء فأنا بطبيعتي لست جماهيريًا، وقراءتي في تلك الفترة كانت معتدلة ولكتاب معروفين كأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي ومصطفى صادق الرافعي والعقاد ومحمد رشيد رضا وغيرهم، وأنا ضد التحزب ولا أراه، وأذكر اندفاعات زملائي في تلك الفترة ولا سيما مع الأمور السياسية والاقتصادية، وكنت أُجرّ أحيانًا لإبداء وجهة نظري، فأبديها لهم هادئة عاقلة وهم لا يريدون العقل في ذلك، ففشلت في إقناعهم بأفكاري حول ذلك. وكنت أنشر مقالات في مجلة اليمامة أيام كان زيد بن فياض- رحمه الله - رئيسًا لتحريرها. وعلى رغم اختلافي معهم إلا أنني لم أخسرهم كأصدقاء، لأنهم كانوا منا وفينا ولكن ثوريات المرحلة وتأثيرات المنطقة ألقت بظلالها عليهم، وبعد أن هدأت الأوضاع وذهبت فورة الشباب رجع كثير منهم عن رؤاه تلك، بل إن أحدهم مَنَّ الله عليه وأصبح من كبار العلماء عندنا علماً وعملاً. في ميادين العمل... دعنا نتتبع ابرز الوظائف التي عملت فيها؟ - بعد تخرجي في كلية الشريعة وجهت للعمل في القضاء، وفشلت في إقناع الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - بعدم صلاحيتي للعمل وأصر عليَّ، ولكن - بحمد الله - استطعت أن أمارس عملاً إدارياً في المحكمة الكبرى في الرياض من دون أن أصبح قاضياً. عملي في المحكمة سبّب لي بعض التناوشات مع القضاة، فقد أوكل إلي الشيخ صالح اللحيدان - حفظه الله - رئيس المحكمة آنذاك متابعة القضايا المتأخرة عند القضاة وعدم تأخير البت فيها لأننا وجدنا قضايا لها أكثر من20 سنة لم يراجع أصحابها فعملنا على الإسراع في حل القضايا، وكان بعض الموظفين لا يلتزم بالدوام فأحضرت القلم الأحمر لورقة الدوام، فشكوني للشيخ صالح حيث إنهم لم يتعودوا مثل هذه المعاملة ولكن الشيخ انتصر لي! وأعتذر للشيخ صالح عما سببت له من إزعاجات في تلك الفترة. محروم من التدريس كانت رغبتي الكبرى أن أصبح معلمًا ولكن فشلت في الوصول إلى هذا المنصب متفرغًا، فبعد أن يسر الله لي ترك القضاء إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلفت بالعمل مديرًا لمعهد الرياض من دون أن أتمكن من التدريس إلا نادرًا. ولما انتقلت إلى كلية الشريعة عملت مدرسًا لمدة سنتين ثم عميدًا لها ثم وكيلاً للجامعة، فكانت الأبواب موصدة أمام تفرغي للتدريس إلا بعد ترك الوكالة وكنت أستمتع به جدًا وخصوصًا تدريس البنات - دراسات عليا لأنهن أحذق وأسهل في الإقناع والحوار! بعد أن أصبحت وكيلاً للجامعة لم أكن أعمل فأنا كنت مجرد منفذ فقط، فمدير الجامعة الدكتور عبدالله التركي لديه قدرة لا توجد لدى كثير من المسؤولين وعنده إخلاص يفوق التصور لما تحت يده، فكانت الحبال بيده فهو يفكر ويخطط وينفذ ويأتي دورنا ثانوياً بسيطاً ما عدا ما في مجلس الجامعة والمجلس الأعلى للجامعة والمشاركة في المؤتمرات خارج الجامعة، وكان هذا ثقيلاً عليَّ فلم أقدر على الاستمرار فأنا لا أريد أن تكون منفذًا فقط بل أريد أن يكون لي بصمة، وكنت أصطدم بالنظام أحيانًا وبالدكتور عبدالله أحياناً، الذي أشكر له حسن ظنه بي وصبره على ما جرى بيني وبينه! العمل في الهيئات كيف تلقيت خبر تعيينك رئيساً لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أبرز ذكرياتك عن تلك المرحلة؟ - عرض علي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض الأمر بتكليفي برئاسة الهيئات، فأخبرته أن التكليف لا يمنحني قوة، فإن كان يريدني فليكن بالتعيين لأستطيع إنجاز ما اصبو إليه وما يتمناه هو. وكان هناك بعض التفاهم معه - وفقه الله - فهو يملك خبرة وحكمة في الإقناع تجعلك ترضى بطلبه، وبعدها صدر قرار تعييني رئيساً لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أبرز ذكرياتي في عملي في الهيئات أنني فشلت في إقناع البعض بأن معظم التجاوزات التي يتهم بها أفراد الهيئات ليست من قبلهم بل من قبل بعض المتطوعين المتحمسين الذين ليست للهيئة سلطة عليهم، وكانت أيديهم مطلقة، وهذا ليس معناه أن أفراد الهيئة معصومون. مما اذكره أيضاً أني لم أنجح في استرداد 20 مليوناً من وزارة المالية، إذ كان خادم الحرمين - حفظه الله - قد أمر ب60 مليوناً دعماً لجهاز الهيئات لم نتسلم منها إلا 40 مليونًا بعد السنة الأولى فقط، وفشلت كل المساعي معهم، وإن كان لحرب الخليج - آنذاك - ظلال على الموضوع وتأويل لما حسم! تجاوزات الهيئة في أثناء عملي في الهيئة وجدت بعض التجاوزات التي لا تستند إلى نص شرعي فعملت على تلافيها ووجدت ممانعة من بعض الناس لأنهم منذ زمن وهم على ذلك ولم يلاحظ عليهم شيء.. وأسوأ شيء أنه قد تتم تجاوزات باسم الدين والدين منها براء! وحاولت إقناع بعض رجال الهيئة بأن يكون ديدنهم السماحة واللطف وعدم الغلظة، ولكن حماسة بعضهم وعدم تهيئته العلمية الصحيحة يؤديان دورًا بارزًا في بعض التجاوزات من جانبهم. وما زلت أذكر أنني عندما تسلمت العمل وجدت اكثر العاملين في الهيئة على المراتب 31 و32 و33 وكانوا بلا تأهيل علمي وشرعي جيد وكان بعض المسؤولين يفضلون تعيين من لا يملك علماً لأجل أن لا يناقش ولا يفكر بل ينفذ المطلوب فقط وهذا خطأ ومن هنا نشأت تجاوزات البعض في الهيئة فالغيرة والحماسة من دون علم جهل مركب. ما الذي لم يسعك الوقت لتحقيقه في عملك في الهيئات؟ - كثير، ويعود سببه إلى نقص الاعتمادات المالية والتخوفات من توسيع الصلاحيات لنقص الكفاءة والقدرة... الخ. بعد هذا المشوار مع الوظائف والمناصب، لوعاد بك الزمن فأي تلك الوظائف سترفضها؟ - كلها ما عدا التدريس، فهو عندي أغلى من كل منصب. خطبة الجمعة بصفتك خطيب جمعة مميزاً... هل ترى أن الائمة الخطباء يمنحون المصلين ما يلزمهم من علم ونصيحة... أم أن هذا المنبر لم يستخدم كما يجب؟ - نعم لم تستخدم المنابر في الغالب كما يجب لأسباب عدة ربما تعلمها وزارة الشؤون الاسلامية، ولعل لنقص الخبرة والقدرة واختلاف وجهات النظر نصيباً في ذلك، وأتمنى أن تتحسن الأمور في المستقبل وأنا أخطب كل يوم جمعة لا أدري هل مستمعو الخطبة راضون عني أم لا؟ مع إحساسي بأن طرحي أحيانًا تكون لغته مكثفة قد لا تتلاءم مع الإنسان العادي، ولا أخفيك سراً أن لي آراء في بعض الأمور لا أستطيع أن أعرضها خوفًا من الفتنة والبلبلة! أنت من الاختصاصيين في الفقه وممن يملكون خلفية متميزة فيه... كيف تنظر إلى دعاوى تجديد الفقه وتقنين الشريعة؟ - أنا دون ما تقول، وارى أن من بلغ رتبة الاجتهاد في الدين بحفظ وفهم نصوص الأحكام من الآيات والأحاديث وما يلزم لذلك الفهم من اللغة وفروعها له أن يستنبط الأحكام من النصوص على شرط أن لا يطلق الأمر لمن لا قدرة عنده على فهم الشريعة. لماذا نحن نخاف من كل جديد اكثر من اللازم؟ - طبيعة مجتمعنا تجعلنا نخاف من غضب الجماهير، لذا تجد الكثيرين من العلماء يتراجعون عن كثير من أفكارهم، فلا يقدمونها للناس، بل إن البعض يتراجع عن فتوى له لأجل أن لا يغضب الجماهير وهذا خطأ، فالعلماء هم من يقودون المجتمع وليس المجتمع هو من يفرض وصايته على العلماء والرأي، وهذا سيقودنا إلى عزلة عن بقية المجتمعات الاسلامية فلكل عصر تطوره واحكامه، ولا بد لنا من مواكبة التغيرات بشرط أن لا تمس الثوابت. مَن مِن الشخصيات تدين لهم بالفضل في مسيرة حياتك؟ - اذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - والشيخ عمر المترك والشيخ صالح العلي الناصر وغيرهم... وما زلت أتذكر وأنا صغير عام 1375ه مدرسي آنذاك الأستاذ محمد محمود وهدان كان قادراً على شحذ هممنا وتوسيع مداركنا بطريقة رائعة. هل أنت مولع بالرحلات؟ وأي الدول لا تزال في ذاكرتك؟ - كنت مولعاً بالآثار، فما رأيته في الأندلس واسطنبول والمغرب ومصر وتونس والباكستان أدهشني وأعجبني اكثر مما رأيته في أميركا واليابان وأوروبا. اللجان والمؤتمرات... هل كانت ضيفاً ثقيلاً عليك أم كنت ممن يغرم بها؟ - لا متعة ولا ثقل، ولكن في الغالب فيها تسجيل التوصيات والملاحظات ثم النسيان. كيف هي علاقتك مع المال؟ - في الأمور المالية أنا متوقف دائمًا ولا أحب خوض غمارها، وأذكر أن الطفرة مرت من دون أن يكون لي حظ فيها، وهذا ما عاتبني عليه أبنائي في ما بعد، وأنا لا أفقه في المساهمات، وأذكر زميلاً لي ذا باع طويل في هذا المجال أصر على دخولي في مساهمة بل إنه عرض عليّ ألاّ أدفع ريالاً واحدًا، وهو يدفع كل شيء ولي الربح، فرفضت. وأذكر زميلاً آخر أراد أن يقدم لي على منحة من الدولة فرفضت، وقلت: "لو قدمت لي من دون علمي وجاءتني فسأردها". بعد هذا المشوار الحافل... ما مدى رضاك عن نفسك وعملك؟ - ها قد مررت بكم على محطات في حياتي قد تكون فشلاً وقد تكون نجاحاً وقد تكون غير ذلك. وأنا أتأمل حياتي بعد تقاعدي أرى أنها هي التي جاءتني ولم أسع إليها فقد دخلتها بسيطًا لأب بسيط وت سلحت بالعلم والإيمان فانتهت بي أن تركت العمل بها - حكومياً - وأنا في مرتبة وزير. حاولت أن أضع فيها بصمة وأن أترك أثراً خيّراً فعساي أن أنال ما تمنيت. أنا فاشل اجتماعياً! أنا فاشل في العلاقات الاجتماعية - النفعية خصوصاً - فكنت لا أعمل على زيادة وتفعيل العلاقة مع النافذين أصحاب القرار، ولو من أجل أن أخدم من هم تحت يدي من الموظفين أو الجهاز الذي أعمل فيه ككل! وكنت أقف ضد الواسطة ولو كانت لمصلحة ستعود على القطاع الذي أعمل به، لأني أرى فيها خرقًا للعدالة، ولكن تبين لي في ما بعد أن هذا خطأ، وفي القواعد الشرعية جواز ارتكاب أدنى المفسدتين لتحقيق أعلى المصلحتين إذا لم يتحققا جميعًا جلبًا للمصالح ودرءًا للمفاسد. وعلى رغم هذا لم أنجح في إيقاف بعض التجاوزات في إدارة بعض المشاريع، لأن ذلك لحساب المظاهر في الإنشاءات والأثاث والدعايات والبهرجة المتكلفة على حساب تحقيق الأهداف العامة المراد تحقيقها، وكان البعض يعد ذلك قصورًا في النظر لدي وعدم إدراك لمتطلبات المرحلة! ونحن للأسف لا نزال نظن أن المظهر يغني عن الجوهر. وأنا أعترف أني مقصر اجتماعياً وعائلياً، ولكن ذلك حتمته ظروف المنصب وما يتطلبه، فهي أمانة ثقيلة.