يكاد الطفل عبدالرحمن هارون لا يحفل بكونه ونحو 1400 من أقرانه الذين يمتطون ظهور"الهجن"، طرفاً رئيساً في أزمة سياسية تبدو متشابكة بين دول حليفة. الولاياتالمتحدة الأميركية صنفت حديثاً، أربع دول من أوثق حلفائها في منطقة الخليج ب"المتقاعسة"في حظر المتاجرة بالبشر وتجارة تهريبهم، ضمن تقرير سنوي أورد العديد من"الانتهاكات"التي يقوم بها ملاك الهجن ضد الأطفال الذين يشاركون في سباقات الهجن لخفة وزنهم. كان الرد الخليجي الرسمي سريعاً، ووصف التقرير بأنه"سخيف". وبعد انتهاء مهلة التلويح الأميركي المحددة بثلاثة أشهر، تراجع الرئيس جورج بوش عن تنفيذ تهديده، معتبراً أن مصلحة واشنطن تفرض عليها موقفاً جديداً. ملامح التهديد السياسي الذي لوح به التقرير الأميركي أثارت سخط ملاك الهجن في منطقة"حضن"، شرق محافظة الطائف ذات الطقس اللطيف صيفاً. وهي المنطقة التي تعتبر تجمعاً سنوياً لملاك"الهجن"من الدول الأربع،، التي وردت في التقرير: الكويت، الإمارات، قطر، السعودية، إضافة إلى وجود ملاك من سلطنة عُمان والبحرين. ولقي التقرير الذي يصدر للمرة الخامسة رفضاً واسعاً من المسؤولين الخليجيين، واعتبروه ضمنياً"تنطعاً سياسياً"من جانب واشنطن. بيد أن الحكومة السعودية قامت بإجراءات سبقت التقرير الأخير بأعوام، هدفها القضاء على منظر الأطفال فوق ظهور الهجن في ميادين السباقات. إذ أصدرت قراراً منعت بموجبه ملاك الهجن من المشاركة في السباقات الرسمية، وحظرت عليهم جوائزها إن لم يلتزموا بوزن 52 كيلوغراماً لراكب الهجن. وهو الأمر الذي يعتبره ملاك الهجن إجراءً قاسياً سيقود إلى"تبخر كل شيء"له علاقة بسباق الهجن وتجارتها اللذين يمثلان مصدر دخل لأكثر من 40 ألف"هجان"وعائلاتهم في السعودية وحدها. والوزن الذي يعتبره الملاك مثالياً لمطية الهجن، حفاظاً على سلامة ركائبهم من الضرر ومن تكبد الخسائر، هو 25 كيلوغراماً. هل يكون الخبر اليقين حول الضجة التي خلفها التقرير لدى وكيل وزارة الخارجية المساعد للشؤون السياسية والمنظمات الدولية الأمير تركي بن محمد بن سعود؟ بلغة صارمة، يؤكد الأمير تركي مضي السلطات السعودية في مواصلة تطبيق قرارها السابق، ومعاقبة كل من يخالف روح القرار"لا لتشغيل الأطفال". لكن الأمير تركي قال إن إبداء التفهم مرتبط بمحاولة إيجاد بدائل مناسبة بالتشاور مع ملاك رياضة الهجن. ومن أجل المكاسب المالية التي تدرها رياضة الهجن في الخليج تقدر ب 50 مليون دولار، فإن المُلاك والمضمرين المدربين المحظور عليهم دخول السباقات الرسمية في ميدان"حضن"بسبب عدم التزامهم بالوزن المحدد، ينظّمون سباقات خاصة، عادة ما تتم في الصباح الباكر بعيداً من أعين المراقبين الرسميين، وغالباً ما تكون ذات جوائز زهيدة. إلا أن هدفاً مستتراً يدفعهم إلى التفاعل مع هذه المسابقات والحماسة لها. إذ يعتبرونها بمثابة تدريب رئيسي، استعداداً للمشاركة في سباقات دبي وأبو ظبي والدوحة والكويت، فهناك العوائد تكون مجزية، مقارنة بما يحصل عليه الملاك السعوديين في بلادهم، لعدم رواج رغبة شراء هجن السباق والتنافس فيها. عبدالرحمن، جابر، وأسماء أخرى لعشرات الأطفال غالبيتهم من الجنسيات الأفريقية يمثلون من وجهة نظر الملاك"حجر الزاوية"في سباقات الهجن والسبب بسيط"كيف سنجد شاباً راشداً يقل وزنه عن 35 كيلوغراماً؟"، يتساءل مالك الهجن عائض الدوسري. ويشير القرني هنا إلى إمكان الوصول إلى تنازل يصل إلى القبول بإركاب"هجان"يتجاوز وزنه الوزن المثالي بعشرة كيلوغرامات. لكن لماذا الإصرار على الربط بين بقاء رياضة الهجن واستقطاب الأطفال لركوبها في السباقات؟ يشدد الملاك والمضمرون مدربو الهجن على أن"هلاك"مطاياهم المهيأة لدخول السباقات يكون في زيادة وزن الراكب. ويؤكد المُضمر الشهير عبدالرحمن بن سلمان العتيبي"سينتهي شوط السباق وتنتهي معه قدرة المطية على دخول سباق آخر". والسبب"لأننا بالتأكيد سنجدها مصابة في مفاصلها وظهرها نتيجة زيادة وزن الراكب. لذا فنحن مجبرون على استقطاب الأطفال". بدورهم، لم يفصح الطفل عبدالرحمن وغيره من الأطفال عن معاملة غير إنسانية، بما فيها تعرضهم للضرب أو الانتهاك. إلا أنهم بدوا مترددين، كمن يحسب حساباً لكل كلمة يلفظ بها. فيما كان من المستحيل الانفراد بالحديث معهم بعيداً من الملاك أو المضمرين ومساعديهم، أو الرعيان. وهؤلاء جميعاً يشددون على أنهم يُعاملون الأطفال معاملة حسنة، تراعي الجوانب الإنسانية، والحفاظ على كرامتهم وسلامتهم، في الوقت الذي تحدث مُضمر سابق ورث المهنة عن والده، عن أنواع من الانتهاك على أيدي بعض الرعاة حصراً. ويقول كامش محمد:"بالنسبة للملاك فهم يسعون إلى الإحسان في معاملتهم مع الأطفال الركوبة من راكب إلا أنني شهدت ممارسات سيئة من الرعيان ومساعدي المضمرين". وبالعودة إلى عائض الدوسري فهو حانق تماماً على مضمون التقرير، ويشير"لا أستطيع تصور رجل أكاديمي يعيش في مدن أميركا، وهو عديم المعرفة بحياة البادية، ويكون له الحق في الحكم على رياضتنا بما يهدد بزوالها". ويعتبر أن كثيرين من ملاك الهجن بدأوا يتحسسون من الأهداف وراء عبارة"حقوق الإنسان"، محذراً من خطورة تفاقم أزمة رياضتهم. ويطالب السلطات بدرس موضوع رياضة الهجن وكل ما يتعلق بها من جميع الجوانب التي تترتب على الشروط الحالية. وعلى رغم إشارة رئيس نادي الهجن في الطائف بندر القثامي إلى التزام الجميع"بما تقرره حكومتنا الرشيدة"، فإنه كان مؤيداً لإيجاد حلول ترضي الطرفين. + هل تلفظ سباقات الهجن أنفاسها الأخيرة ؟ سباق الهجن ذو الجوائز المالية الباهظة والصفقات النفيسة، لا تتجاوز مدة الجولة فيه الدقائق الثماني، وهي مدة يقطع خلالها الإبل مسافة الشوط الواحد في ميدان طوله نحو عشرة كيلومترات. وإذا كانت الهجن الفائزة بسباقات الأشواط الرئيسية تعود إلى ملاك من خارج الأسر العريقة الثرية، فإن المالك ينتظره مبلغ لا يقل عن نصف مليون دولار ثمناً لناقته الفائزة. والشعور بالحماسة والتنافس الرياضي يذهبان هباءً، في حال لم تنشط بورصة المال والدفع المجزي للمُلاك والمضمرين، وهم الفئة التي يتجاوز عددها في منطقة الخليج 60 ألف شخص، تتمحور حياتهم حول هذه الرياضة، وما تتطلبه من تجهيزات واستعدادات للسباقات الكبرى. يبدو بندر القثامي عاطفياً تجاه ميدان"حضن"في الطائف، وهو الميدان الذي تمت تهيئته بإمكانات عالية قبل نحو 20 عاماً، كهدية من خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز إلى محبي رياضة الهجن. وينتشر اليوم على محيط الميدان الرئيسي للسباقات، ما يزيد على 1600"عزبة"طبقاً لأقل التقديرات. و"العزبة"هي مقر سكن المالك أو المضمر، ومرافقيه من الأبناء والرعيان. وتشكل هذه المنطقة التي تبعد نحو 42 كيلومتراً شرق الطائف صورة مشابهة لمجتمع القرية. لكن بندر، وهو رئيس أكبر ناد للهجن في السعودية، لا يمتلك سوى عزبة صغيرة منزوية في أول مساحة الميدان، ويتوسطها موقد للنار يتجمع حوله المسامرون. وتشبه"العزبة"الاستراحات إلى حد ما، إلا أن بعض"العزب"مسورة بسياج من الشبك الحديدي. وعلى رغم أن الميدان مجاور لموقع تاريخي في الثقافة العربية"سوق عُكاظ"، فإن حديث هذا الحشد من الملاك والمضمرين ومرافقيهم يسيطر عليه في المقام الأول حديث الهجن، وإن صودف أن قيل شعر فهو مرتبط بالهجن ورياضتها. ويخوض مجتمع رياضة الهجن في أحاديث تنضح بالعاطفة حول مصيرهم، إذا ما مضت الحكومات الخليجية في تطبيق حازم لقرار منع الأطفال من المشاركة في السباقات. وحينما تشتد نبرة النقاش عن أزمة الأطفال بين الجالسين حول موقد النار، يكتفي بندر القثامي بالقول:"دولتنا دائماً ماضية للخير". وفي السعودية هناك 13 نادياً للهجن، موزعة جغرافياً على مناطق البلاد باتجاهاتها الأربعة. وبحسب تركي الدوسري أحد كبار المضمرين السعوديين في منطقة وادي الدواسر، فإن انخراطه بالوراثة في رياضة الهجن مكنته من الإنفاق على أولاده حتى أتموا تعليمهم. وعقد تركي مع أبنائه العاطلين عن العمل صفقات مربحة للطرفين. يقول:"اشتغلوا معي، وتكفلت بزواجهم وتخصيص رواتب تسد حاجتهم، والحمد لله". ويشتعل تركي الدوسري عجباً من ترصد التقرير الأميركي لرياضتهم، ويتساءل عن مفهوم أميركا لحقوق الإنسان. ويقول:"أصغر واحد في المجلس مستعد أن يعطيك قائمة تجاوزات أميركية معروفة عن حقوق الإنسان". ويتساءل"خلال السنتين الماضيتين، كم فضيحة ضد حقوق الإنسان ارتكبتها الولاياتالمتحدة". ويحاول عبدالرحمن بن سليمان العتيبي، وهو المضمر الشهير بالفوز في أكثر السباقات الخليجية أهمية، أن يوثق نشاطه بعقود ووثائق تربطه مع آباء الأطفال الذين يستعملهم في تدريب الهجن. واطلعنا على مجموعة من العقود الموقعة بشهادة شهود، على أن الوالد يقبل تشغيل ابنه الصغير في رياضة الهجن، وتحت إشراف المضمر. ويتحدث العتيبي عن أن"الآباء بأنفسهم يرجون مضمري الهجن أن يشغلوا أطفالهم، وهناك مصلحة تجمع الطرفين، ونحن نتشدد في تأمين عيشة كريمة لأي طفل يعمل معنا، في الوقت الذي يؤمن لأسرته مصدر دخل مجز". وفيما تنم أحاديث المسؤولين السعوديين عن أن قضية استمرار الأطفال في ركوب الهجن وقت السباقات أو حتى خارجها، تلفظ أنفاسها الأخيرة، يصر أهل الرياضة التي توصف بأنها إحدى الرياضات العربية الأصيلة على أن يلقوا دعماً واحتفاء، مثلما هو حاصل في سباقات الخيل.