ستمر سنوات طويلة قبل أن يدرك أكثر من 60 ألف إنسان خليجي لماذا حشرت الولاياتالمتحدة أنفها في مصدر سلواهم في هذه الدنيا ومكمن فخرهم... عالم الإبل وتجارتها. من سيقنع قائد"الرعيان"سالم الرشيدي وعشرات من نظرائه، إضافة إلى ملاك الإبل وصغار تجارها وكبارهم، بأن أميركا لا تقصدهم شخصياً، إنما هي تريد المناكفة السياسية والظهور بصورة"راعٍ"من نوع آخر. قبل شهور عدة، ظهر تقرير أميركي يلوح بعقوبات تحمل رمزية سياسية أكثر من أي شيء آخر، يتهم بعض الدول الخليجية ومنها السعودية بانتهاك حقوق الإنسان واستغلال الأطفال، من خلال استخدامهم في سباقات الهجن. ومن المعروف أن الأطفال يشاركون في هذه السباقات، نظراً إلى خفة وزنهم التي تساعد الإبل على الجري لمسافة أطول، ولأن رجلاً بالغاً يعتبر حمولة ثقيلة بالنسبة إلى الإبل. الجمل، المخلوق الأكثر ارتباطاً - في خيال الغرب - بالشرق وثقافته، لا يزال يثير الاهتمام و"الاصطدام". سفينة الصحراء الشهيرة لم تتقاعد على رغم التطور التقني الذي يغزو العالم. عشاق الإبل في الشرق لم يتخلوا عنها، بل أمّنوا لها حياة مترفة، وأحاطوها بالرعاية حتى غدت مصدر فخرهم واعتزازهم، و"آلة صرف"طبيعية تدر عليهم النقد. أكثر من 19 مليون رأس من الإبل بمختلف سلالاتها العريقة واستخداماتها المتنوعة، توجد في منطقة الشرق الأوسط وشرق أفريقيا. وأدى تحالف غير مقصود بين الوفرة المالية في الخليج، والذاكرة الشعبية الطيبة عن الإبل، إلى علو شأنها في الحياة اليومية لعدد كبير من أبناء المنطقة ورموزها خصوصاً. إذ لا يتردد علية القوم أمام أي رقم يطلبه تاجر الإبل، ثمناً لرأس أو قطيع من أفضل السلالات. والإبل في الخليج تقاعدت تماماً عن وظيفتها التاريخية في النقل، لتتحول إلى مفخرة الأثرياء ومصدر دخل المتاجرين بها. فهي تُربى، إما بغرض الاستفادة من حليبها، أو إكرام الضيف بلحمها الذي يتصدر موائد الأثرياء، وتدور حول فوائده الصحية الكثير من الحقائق المختلطة بالأساطير. وتُربى الإبل لزجها في مسابقات الهجن أو"الجمال"وتسمى"مسابقات مزايين الإبل". كما ترصد لها عشرات الملايين لمجرد المتعة بتربيتها، وامتلاك أفضل سلالاتها للتدبر في حركتها، وهي ترعى في الصحراء، امتثالاً للتساؤل الإلهي:"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت". السلالات الأصيلة في متناول الأثرياء فقط! يردد هواة الإبل ومحبوها قولاً يوجز سر ارتباطهم بهذا المخلوق:"إذا حلبت روت، وإذا نحرت أشبعت، وإذا حملت أثقلت، وإذا مشت أبعدت". لكن لدى الأثرياء والوجهاء ممن يحرصون على الارتباط بماضي جدودهم مقولة إضافية:"وإذا شوهدت سرّت"، إذ أن سرورهم يتأتى عن طريق مشاهدة الإبل تسرح في مراعيها. ويعرف أهل الخليج أن معظم أمرائهم وأثريائهم من القبائل يحرصون على امتلاك قطعان من الإبل المتنوعة بألوانها وسلالاتها. بل إن بعضهم يملك سلالات كاملة من الإبل الأصيلة، تُرصد للعناية بها موازنات مالية ضخمة"بكل سرور". ومنظر قطعان الإبل يكون حاضراً بقوة في ذهن أكثر الرجال في الخليج تقدماً واحتكاكاً بالغرب. فرجل الأعمال الشهير الأمير الوليد بن طلال الذي يعد شاباً مقارنة بكثير من الأمراء وشيوخ الخليج، هو واحد من أبرز الشخصيات الخليجية احتكاكاً بالحضارة الغربية، وهو حريص على اقتناء الكثير من الإبل والتمتع بها كل نهاية أسبوع، والخروج إلى موقعها في قلب الصحراء. وبحسب تجار الإبل، فإن للأمراء عادة راسخة في دفع المبالغ المجزية، من دون التفكير لحظة في بيع ما حصلوا عليه من الإبل النادرة. بل تعد الإبل ذات السلالات النادرة واحدة من أثمن الهدايا التي يقدمها أمير لنظرائه. بيد أن هناك انحساراً من الشخصيات السعودية في الاهتمام بالهجن وسباقاتها، وما يتطلبه ذلك من دفع مبالغ ضخمة لامتلاكها والدخول بها في المسابقات. وتبدو الصورة على عكس ذلك في دول الخليج الأخرى، التي تبدو وكأنها قريبة العهد بهذه الرياضة الشهيرة، التي خُصصت لها مواسم في فصلي الشتاء والربيع تنتقل فيه السباقات من سلطنة عمان، إلى أبو ظبي، إلى دبي، إلى الدوحة، ليختتم الموسم في الكويت. ويشعر أهل الهجن بالغيرة من الخيل وسباقاتها، إذ ذهب اهتمام الشخصيات السعودية إلى الخيل وما يعنيه ذلك من ضربة موجعة لسوق سباقات الهجن والتجارة المرافقة لها. لكن الإبل بشكل عام، ما ان يسقط ركن من أركان عشقها حتى يُشيّد غيره، إذ بدأ حديثاً الإقبال على نوع جديد من المنافسات يتمثل في"مزايين الإبل". وظهرت طبقة جديدة من التجار متخصصة في هذا النوع من الإبل ومواصفاته والسعي إلى التنافس عليه، والإبل الفائزة بمعايير لجنة الحكام، يكون حظ راعيها صفقة تاريخية لا تقل قيمتها عن المليون ريال. ولعبت التقنية دوراً رئيسياً في ترويج المعرفة بشؤون هذا المجال وأخباره، من خلال مواقع"الانترنت"والمطبوعات الفاخرة المخصصة للإبل و"مزايينها". وما يدل على قيمة المبالغ الضخمة التي تستثمر في مسابقات الإبل هو نشوء أسواق تجارية مرافقة تأخذ صفة البدو الرحل، إذ ينتقل ملاك المحال من موقع تنافس إلى آخر في مناطق السعودية. وترافق المسابقات أينما ذهبت سيارات نقالة ذات طابع خدمي، فالملابس على سبيل المثال لا يتطلب أمر نظافتها سوى مرور سيارة متخصصة على مقار سكن مربي الإبل وتجارها، وبعد ساعات تعود بها جاهزة للارتداء. ويقر المستفيدون من تجارة الإبل وتسويقها، بعدم قدرة أحد على تكبد نفقاتها سوى الأمراء وشيوخ الدول الخليجية، خصوصاً في السعودية والإمارات وقطر. حقائق وأساطير على ذمة أهل العلم الشرعي، فإن الإبل احد المخلوقات التي تظهر الجان على هيئتها. وعلى ذمة أهل البادية، فإن بول الإبل شفاء من أمراض خطيرة جداً مثل السرطان. تحمل ذاكرة شعوب الجزيرة العربية وآسيا ومناطق جنوب وغرب أفريقيا، الكثير من المديح في خصائص الإبل وقدرة لحومها ولبنها على شفاء أمراض عدة، وأغرب هذه القدرات هو الشفاء من عوارض الكآبة النفسية عند مداومة المصاب على شرب حليب الإبل. كل من كانت بيئته بعيدة من الصحراء لا يمكنه"هضم"ما يقال في فوائد لحوم الإبل ولبنها. إلا أن الدراسات العلمية حول الإبل ومكوّناتها وفوائدها تصاعدت خلال السنوات الأخيرة، لتثبت كثيراً مما يردده أهل البادية في تراثهم الثقافي عن هذا الكائن شديد الصبر. يجزم خبراء الإبل، مستندين إلى ما يسمونه البحث العلمي الميداني، أن حليب الإبل سبب مباشر للشفاء من حزمة مهمة من الأمراض المنتشرة حالياً، مثل مرض السكري، والسل الرئوي، وأمراض الكبد، والطحال، والبواسير، وفقر الدم، ومرض الربو. بحسب دراسة علمية استمرت عشرة أعوام في الجزائر، تبين أن للإبل قدرة على تحمل ظروف الإجهاد الحراري والإشعاعي والتلوث المناخي، إضافة إلى مناعتها العالية ضد المواد الكيماوية. تخوض سلطات الأمن في بلدان عدة سجالاً ساخناً مع ملاك الإبل في مناطق الرعي القريبة من الطرقات الرئيسية، بسبب ارتفاع حجم حوادث الاصطدام بالإبل، والتي تعد من الحوادث القاتلة في معظمها. المدافعون عن حقوق الحيوان والمغرمون بالإبل يدافعون بقوة عن براءة الجمل من تهمة القتل، ويتهمون"الرعيان"بالإهمال، والسائقين بالتهور في القيادة على الطرقات المظلمة. تفيد الإحصاءات الرسمية السعودية أن عدد رؤوس الإبل تصل إلى 300 ألف رأس، ترعى في مناطق البلاد المختلفة، لكن هذه الإحصاءات لم توضح إذا ما كانت هذه الإبل من النوع المخصص للأكل، أو المخصص للسباقات والتربية. يسري في إحدى قبائل شرق السعودية حديث حقيقي بالنسبة لهم أن البادية العربية كانت خالية من الإبل في الأساس، ولم يكن اليهود يملكون خيلاً، فنزلوا بإبلهم إلى جرف صخري وعر في منطقة الهضب في الحجاز، وصادف أن العرب مروا بالطريق فرأوا الإبل للمرة الأولى، وكانت أشكالها غريبة بالنسبة إليهم، فأغاروا صباحاً على اليهود وغنموا إبلهم، فصُدم اليهود ومرت عقود وهم يضعون لإبلهم الماء في الحياض بلا جدوى. وبناء على هذه الأسطورة التي سجلها المستشرق التشيخي الويس موزول في احد كتبه عن المنطقة، يتداول بعض أبناء البادية مثلاً يقول:"رجو رجاء اليهود من البل الإبل".