لم تأت تسمية الروائي الراحل عبدالعزيز المشري لإحدى رواياته "الغيوم ومنابت الشجر"، والثانية "الوسمية" من فراغ، وذلك لكون مصطلح الغيم له دلالاته الحاضرة بقوة على أرض الواقع وعلى قمم جبال السراة، ومشاهد"الوسم"راسخة في مخيلة الكاتب الذي ينتسب للمنطقة ولادة ونشأة. وبما أن الباحة تقع في قمم مرتفعة من جبال السروات يصل ارتفاعها إلى 2500 متر تقريباً، فمن الطبيعي أن تتصل الأرض بالسحاب، ومن المعقول جداً أن تأسر الجبال الغيوم، وتحتويها في مشهد أخاذ، يولد شاعرية حتمية في نفس الزائر والمقيم، فهنا تتداخل الأراضي وساكنوها مع أفق الغيم الذي لا حدود له، لتنبني علاقة وجدانية مشبعة بالحنين بين إنسان الباحة وبين غيومها، تتمثل في رمق النظر لها عن بعد وتهجيها عن قرب. وبما أن المشاعر تتباين بحسب تباين قدرات المعايش، والقراءات تختلف من جيل لآخر، والتأملات تتفاوت من ذاكرة لأخرى حاولت"الحياة"أن تستقرئ ما استقر في وجدان أهالي المنطقة عن الغيم. فمن الجيل الأول يروي العم جار الله الزهراني 65 عاماً أن أول ما يتنبه له الرجل عند خروجه من منزله الغيم، فهو من بشارات الخير، إذ تعودنا في هذه المنطقة أن نترقب هطول المطر لنبدأ الوسمية، ممثلة في زراعة القمح، وبمجرد رؤيتنا لتشكل الغيوم في جهة الغرب في فصل الشتاء، يبدأ تفاؤلنا العريض بموسم أمطار طوال ثلاثة أشهر، فيما تبقى أمطار"المصاييف"مرتبطة بالسحب المتشكلة فوق المنطقة من جهة الشرق، والتي لا نعول عليها كثيراً، باعتبارها سحب صيف سريعة الانقشاع ومطرها قليل الأثر. ومن جيل الوسط يستعيد سعود الغامدي 51 عاماً مشاهد يستعصي على الذاكرة نسيانها، إذ أن الغيوم الكثيفة تتحول في موسم الشتاء إلى ضباب، ما يوفر مناخاً مناسباً للسرقات البريئة، ومنها ما وقع لسعود شخصياً حين أتى أحد أصدقاء الطفولة بإناء فيه سمن طالباً منه تأمين الخبز، فما كان منه إلا استغلاله للضباب، ليحوله إلى معين لتحقيق غرضه، والسطو على"ملة"الجيران، وهي موضع إعداد الخبز وتمثل حجراً دائرياً، يتحمل درجة حرارة عالية، إذ تضع ربة البيت فوقه العجين منذ الليل، وتغطيه بطبق يقال له"المكب"أو"المشهف"وتحيطه بكمية من جمر القرض، وتتركه حتى الصباح. ويضيف سعود أنه اقتلع ذلك الرغيف الكبير والساخن، بمهارة عالية ولم يعلم به أحد بفضل الكثافة الضبابية. من جهته، ارتبط الغيم في ذهن عبدالقادر سفر 35 عاماً باخضرار الأرض وانتشار القطعان في الفضاء المفتوح، ولا ينسى الحذر المتزامن مع صوت الرعد، والذي يصاحبه في الغالب تنبيه من الآباء أو الأمهات يدعو لأخذ الحيطة والحذر، والذي يجعلهم يفرون من الأودية كلما تشكلت الغيوم السوداء وجلجلة هزيم الرعد، خشية تعرضهم وأغنامهم للأذى من السيول الجارفة. فيما أباح القاص جمعان الكرت أنه بصدد إعداد مجموعته القصصية الثانية، والتي ضمنها صوراً من حياة الناس في الماضي، وكيف كان الشبان والفتيات يلتقون بأغنامهم في سهول وأودية بعيدة عن القرية، ولا ينسى أنه كان يستكن مع مجموعة من الرعاة من الضباب داخل مغارات، وكهوف في الجبال وتغشاهم سنة من النوم أحياناً، فيما الأغنام ترتع في مرعاها، ولكنها لا تسلم في الغالب من نهش كلب أوغارة ذئب، ما يعني عقاباً أليماً عند العودة للبيت والقطيع ناقص. ويؤكد أن لمعان البرق هو الذي يجمل منظر الغيم في عينيه مسترجعاً مع الشاعر"ما أنت والوعد الذي تعدينني... إلا كبرق سحابة لم تمطر". ويصف الطفل سهيل خمسة أعوام الغيم بالخيام السوداء، وتعارضه شقيقته رنا ستة أعوام مدعية أن الغيوم جمال معلقة، وهي تسير في الأفق مثلما تسير الإبل على الأرض.