تم توقيع صفقة موقتة، لها ما بعدها، تتيح تفتيشاً دائماً على طموحات إيران النووية، من السهل تصوره، وإن ظل من الصعب تحقيقه. تلك الصفقة المبرمة في 24 تشرين الثاني نوفمبر الماضي بين ست قوى عالمية وإيران، هي أفضل كثيراً مما يسمح به منتقدوها مقابل ستة شهور من رفع موقت ومحدود للعقوبات قابل للرجوع عنه. وقالت إيران إنها لن تكتفي بتجميد تقدمها نحو قنبلة نووية ممكنة، بل ستتراجع خطوات فعلية، وذلك أيضاً محدود وموقت وقابل للرجوع عنه. فلا شيء تم استبعاده. وليست ستة شهور إلا فترة قصيرة. ولكن إذا استطاعت مفاوضات لاحقة تثبيت المكاسب فستكون نقطة تحول في الجهود لوقف الانتشار النووي وفي السياسة داخل المنطقة بأكملها. لقد تحقق الاتفاق بواسطة عملية متعددة الأطراف في جنيف، ومناقشات سرية موازية بين إدارة أوباما وإيران بدأت في آب أغسطس الماضي عند تولي رئيس إيران الجديد حسن روحاني الشهير إعلامياً باعتداله، ومورست المفاوضات جميعاً في جو شديد الابتعاد عما طبع الماضي من تصريحات عدائية وشكوك متبادلة. وتفرض شروط الصفقة على إيران التخلص من مخزون اليورانيوم المخصب وتجميد التخصيب بقدر أكبر، والخضوع لنظام تفتيش أعمق دقة. وفي مقابل هذه الخطوات تسترجع إيران 4.2 بليون دولار كانت جُمدت من حسابها، وتفوز بتخفيض القيود على تجارة البتروكيماويات والمعادن النفيسة وقطع غيار الطائرات والسيارات مما تصل قيمته إلى 7 بلايين دولار. ولكن العقوبات التي تكلف إيران 30 بليون دولار في المدة نفسها تبقى ثابتةً في مكانها وإن لم تكن كل إيرادات إيران من البترول. وهناك نقد أقوى للصفقة يتعلق بأنها لا تقول شيئاً عن حق إيران المزعوم في التخصيب الذي تراه لا يقبل التنازل عنه وفقاً للإتفاقية الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية، التي تعطي الدول كافة الموقعة عليها ومنها إيران، في التخصيب لأغراض سلمية. ومن المتوقع أن تكون لتلك الصفقة أصداء، فنهاية عداوة عميقة طويلة البقاء يشير إلى تغييرات أوسع مدى، يمكن على سبيل الاحتمال أن تؤدي إلى استعادة علاقات ودية قريبة مما كانت أيام الشاه بين إيرانوالولاياتالمتحدة، وهو ما ينذر بأن يكون لإيران دور ملموس في المنطقة. ويعني هذا الأمر أكبر القوى في المنطقة وهي السعودية ومصر وتركيا في هذه الرمال المتحركة. ويبدو للسعودية أن الولاياتالمتحدة تخلت عنها مراراً. فالسعودية لم ترتح لعلاقة الصداقة بين واشنطن و"الإخوان المسلمين"الذين لا تتفق معهم، كما كانت تؤيد ضربة عسكرية سريعة تطيح نظام الأسد في سورية بدلاً من الرجوع عن ذلك. وفي ما يتعلق بالاتفاق الحالي مع إيران تستاء السعودية من حقيقة أنها أبعدت عن المفاوضات الخلفية التي أسهمت في نجاحه، لأن أميركا ظنت أن حضور ممثلي الرياض قد يجعل الاتفاق متعذراً. ومن المفهوم خشية السعودية من إيران بعد أن تصبح في حال صداقة مع الولاياتالمتحدة، فذلك يجعلها أفضل وضعاً في محاولاتها المتكررة للسيطرة على المنطقة. فمن الملاحظ من زمن طويل أن نوري المالكي الشيعي الذي يحكم العراق على أسس طائفية متزايدة منذ أن صار رئيساً للوزراء في 2006 ظل على علاقات حميمة مع إيران. ومن المزعج أن إيران قد تكثف جهودها المريبة لإثارة الشيعة الذين يشاركونها المذهب الديني في المحافظات السعودية الشرقية، كما في البحرين ولبنان واليمن. وجاء الاتفاق الصفقة وقت علاقات حرجة بين أميركا ومصر أيضاً. إن قادة القوات المسلحة المصرية الذين انضموا إلى الثورة الشعبية الهادفة إلى الإطاحة بعام من حكم"الإخوان"في تموز يوليو يلومون الولاياتالمتحدة بشدة على مؤازرة"الإخوان"طيلة مدة حكمهم كما تفعل الكثرة من الشعب المعادية ل"الإخوان"، أما جانب"الإخوان"الذي انحسرت شعبيته كثيراً فيدعي كاذباً أو متوهماً أن أميركا تغاضت عن إطاحة مرسي، وربما تصل الأكذوبة إلى حد الزعم بأن أميركا نسقت وقادت بتوصية من اسرائيل جهود تلك الإطاحة. ولن تجد الصفقة مع إيران ترحيباً من جانب القيادة العسكرية أو"الإخوان المسلمين". ولكن الصفقة وجدت ترحيباً في تركيا وصفقت لها الحكومة، وإن جاءت في وقت فقدان تركيا الأرض المشتركة مع الأنظمة العربية وإخفاقها في اجتياز الرمال المتحركة في مصر وسورية، وتغير الوزن النسبي للقوى المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط وبروز دور القوى غير العربية، إسرائيل وتركياوإيران. ويمكن أن تكتسب إيران حضوراً يدعي الشرعية بعد الصفقة الأخيرة والتفاهم مع واشنطن مما قد يؤدي في الظاهر إلى تراجع دور مصر والسعودية موقتاً. ومن المنطقي أن تنزعج السعودية ودول الخليج من صفقة أميركا مع إيران، فقد حصلت طهران بنفوذها المتوسع على مساحة إضافية وما يشبه شرعية إسهام في خريطة تغير توازنات المنطقة، مثل حل الأزمة السورية والحصول على وضع يقترب من وضع المشارك للولايات المتحدة في إدارة بعض شؤون المنطقة. والآن لم يعد زعم إسرائيل أن إيران تمثل خطراً على وجودها يلقى من الناحية العملية تصديقاً واسع الانتشار. ولن نجد في المؤسسة العسكرية المصرية ترحيباً بالنموذج التركي في تماثله مع"الإخوان"أو تحجيم دور المؤسسة العسكرية ذات التوجه الوطني المصري والقومي العربي. وبعد كل ذلك يثار تساؤل حول حدوث صخب كبير حول صفقة صغيرة، فمنتقدو الاتفاق مع إيران يزعجهم أنه قد يكون استهلال صداقة قديمة. ولكنه في الواقع ليس كذلك. وهناك من يأخذون على إدارة بوش الابن أنها لم تتفاوض أو تستجب لعرض إيران حول برنامجها النووي لأن تلك الإدارة اعتقدت واهمة أن نظام إيران ضعيف جداً أنهكته العقوبات وليس أمامه إلا الاستسلام أو السقوط إذا بقيت واشنطن حازمة أمامه. ولم يكن هناك اتفاق أو تعامل أو صفقة من أي نوع. فماذا كانت النتيجة؟ في 2003 كانت إيران قد ركبت 160 جهاز طرد مركزي فقط والآن لديها حوالى 19 ألفاً من تلك الأجهزة. والحقيقة أن إيران طيلة العقد الماضي طورت مهارة تقنية خطيرة في الطاقة النووية بآلاف من العلماء والخبراء. وبالنسبة الى قُطر غني بالنفط تكون تكاليف برنامج نووي متواضعة نسبياً لأن إيراد إيران السنوي من البترول حتى تحت وطأة العقوبات يبلغ حوالى 69 بليون دولار. وكل ما هنالك أن اتفاق جنيف بعد كل الصخب المحيط به لا يقدم على الأكثر إلا فرصة لاختبار نيات إيران اختباراً حقيقياً. * كاتب مصري