يُقلِّص تركيز تجاذبات الأطراف الإقليمية والدولية على ملف الآليات والعقوبات المحتملة على عدم تنفيذ النظام الأسدي تسليم وتدمير سلاحه الكيماوي مدى رؤية الجوانب الأخرى التي يُعتبَر بعضها أساسياً في ما صار يُدعى"الأزمة السورية". في مقدم آثار هذا التركيز حصر نقاش مستقبل سورية ضمن حلقة خارجية ضيقة في وقتٍ"يَطلب"النظام من عموم السوريين تلقي نتائج حربه الشاملة على المعارضة ومؤيديها الذين صار يقع عليهم أيضاً أن يواجهوا في المناطق"المُحرَّرة"اندفاعة المجموعات القاعدية إلى السيطرة. فكأنه يُراد لهذا النقاش أن يتم في الظلال فيما تتقاطع بالتوازي معه لحظات سياسية سلبية. فمن جهة، ثمة غض نظرٍ فعلي عن استئناف الاستهداف الجماعي للمدنيين بالوسائل وبالبربرية السابقة لانفجار قضية الكيماوي. إذ فور ابتعاد شبح"الضربة"عادت طائرات النظام إلى إلقاء البراميل والخزانات المتفجرة وزادت وتيرة الصواريخ وقذائف المدفعية على الأحياء السكنية، واستأنف الجيش و"الشبيحة"ومقاتلو"حزب الله"محاولة تحقيق انتصارات ميدانية. ومن جهة أخرى، يحاول النظام وحامياه الروسي والإيراني مقايضة تسليم الكيماوي ببقائه وسط حملة"عالمية"لإعادة تأهيله إعلامياً بصفته"السد الأخير ضد الإرهاب". ومن جهة ثالثة، تتردى أوضاع المناطق"المحررة"على المستويات الخدمية والمعيشية والأمنية بفعل الأعمال الحربية للنظام والتشتت الفصائلي وصعوبة تنظيم إدارة فعالة وضعف الموارد الذاتية وعدم كفاية التمويل الخارجي وكثرة مسارب إعادة تدويره لغير أغراضه الأصلية. ورابعاً، هناك ارتفاع وتيرة عنف القوى الجهادية أياً تكن التمايزات في رؤيتها وتركيبها كالسورية الغالبة على جبهة النصرة والخارجية الغالبة على قيادة وكوادر"داعش" لفرض أسلمة راديكالية وتوسيع سيطرتها الميدانية والإدارية و"القضائية"على مناطق كاملة وتأكيدها رفض الديموقراطية والتعددية بمصادرة المرافق والموارد العامة والاعتقالات والخطف والقتل وتفجير مقارّ المناهضين، ومهاجمة"الجيش الحر"وصولاً إلى قيام"داعش"بنزع صلبان كنيسةٍ في الرقة وتحطيم أخرى. كل ذلك هو بمعنى ما ضغطٌ على وجهة النقاش حول المستقبل ونتائجه، لكنه من النوع الذي يُضعف المعارضة في شكل رئيسي ضمن إضعاف وزن الداخل السوري عموماً ويهمش مشاركتها ووزنها فيه ويمكن أن يكون أداة لإخضاعها اللاحق لمتطلبات التسويات الدولية - الإقليمية حال نضوجها، الذي يجري بشروط يُرجَّح أن تؤدي إلى"حلٍ سياسي توافقي"متميز عن الأهداف الأصلية للثورة. ثمة إشارات كثيرة تؤيد هذا المنحى، لعل أبرزها تلك التي حملها خطاب الرئيس باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وتضمنت، إلى عرض المفاهيم المفتاحية للسياسة الخارجية الأميركية، إطار الحل المذكور وعناوينه العامة كحصيلة للتحليل السياسي الأميركي حول الإكراهات والممكنات والمصالح التي يُدعى الحل العتيد إلى تمثلها في ظل نسبة القوى الحالية لأزمة مؤقلمة ومُدوَّلة. أولى النقاط أن مسار التسوية وفق الخطاب"ليس مسعى محصلته صفرية، أي أن طرفاً يفوز بكل شيء وطرفاً آخر لا يفوز بأي شيء. إننا لم نعد في حقبة الحرب الباردة". وهذا موجهٌ بالدرجة الأولى إلى روسيا البوتينية المتأرجحة بين العودة العامة إلى أسلوب الحرب الباردة ولغتها وبين الاستجابات المتقطعة للدعوة الأوبامية إلى الشراكة، وموجّه إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية قائدة معسكر الممانعة و"المقاومة"وصاحبة الملف النووي العالق. كما هو مُوجهٌ إلى إسرائيل المعنية بإزالة الترسانة الكيماوية وبالنووي الإيراني، من دون استبعاد مصالح القوى الإقليمية الأخرى. في المقابل، قوله إنه"لا توجد مصلحة لأميركا في سورية تتجاوز رفاهية شعبها والاستقرار في الدول المجاورة لها والقضاء على الأسلحة الكيماوية وضمان ألا تصبح ملاذاً آمناً للإرهابيين"، هو بمثابة تأكيد"خارجية"المسألة السورية بالنسبة إلى المصالح الأميركية. فالمصالح التي يمكن أن تدافع عنها في سورية هي إما مصالح الآخرين الأكثر صلة بالداخل الأميركي كإسرائيل ومصادر الطاقة وطرقها و"مكافحة الإرهاب"، والأوَّلان في انكفاء نسبي أو المصالح العمومية للاقتصاد العالمي. وهذا ما يستعيده بإعلانه أن ليست في سورية"لعبة كبيرة يجب الفوز بها"، وما يُفسر بعض أسباب التأخير في معالجة"المسألة السورية"الذي ينسبه إلى المجتمع الدولي. قصارى القول، إن السقف النظري لتدخل أميركا سيبقى محدوداً وعرضياً، ولو اضطرت في وقتٍ لاحق إلى تنفيذ ضربتها التي ما كان الأسد سيقر مبدئياً بتسليم الكيماوي لولا التهديد بها. وذلك يعادل القبول السلبي باستمرار الاختلال الميداني لكثافة التدخلين الروسي والإيراني ما لم تنهِ واشنطن والعواصم الغربية تلكؤها في تزويد المعارضة بالسلاح النوعي أو في فرض مناطق آمنة وحظر جوي. وهو ما يبدو أكثر صعوبة بعد قطبية الكيماوي والانعطافة السلبية داخل المعارضة العسكرية لمصلحة سيطرة الإسلاميين المتفاقمة ببيان ل41 فصيلاً بينها"النصرة"نزع الثقة بالائتلاف وبحكومته العتيدة ودعا إلى التوحد"ضمن إطار إسلامي واضح يقوم على أساس تحكيم الشريعة وجعلها المصدر الوحيد للتشريع، والذي تبعته أنباء عن اعتزام أكبرها تشكيلَ"جيش محمد"ليقتصر على"أهل السنّة والجماعة"ولإعطاء"القرار للعسكر في الداخل". وإلى الاعتبارات المذكورة، يضيف أوباما توصيفه أن الحرب أمست أهلية. وهو، وإن حمَّل دموية النظام مسؤولية التحول، يؤكد عدم اعتقاده بأن"العمل العسكري من الأشخاص الموجودين داخل سورية أو من القوى الخارجية يمكن أن يحقق السلام الدائم". وإذ يدعو روسيا وإيران إلى عدم التمسك بحكم الأسد لعدم توفير مساحة متزايدة"لعمل المتطرفين"ولاستحالة استعادة الأسد شرعيته والعودة إلى"ما قبل الحرب"، فإنه يطلب من داعمي"المعارضة المعتدلة من بيننا إقناعها بأن الشعب السوري لا يمكن أن يتحمل انهيار مؤسسات الدولة وأنه لا يمكن التوصل إلى تسوية سياسية من دون معالجة المخاوف المشروعة والعوامل المثيرة للقلق لدى العلويين والأقليات الأخرى". بهذه المنطلقات، يبدو مشروع التسوية الأوبامية أقرب إلى صيغة"إنقاذ مؤسسات الدولة"من دون الرئيس وتعديل الهياكل الدستورية وتكثير السلطات و"توافقيتها". بذلك، تكون الحصيلة غير صفرية لكل الأطراف لكنها ليست إسقاطاً للنظام وفق مثال الدولة المدنية الديموقراطية. المعارضة أيضاً لم تعُد كما بدأت.