يختزل عنوان المقال مصطلحات ذات دلالات مشكلة وعميقة، فهو يجمع بين مصطلح القيم، والتحولات التاريخية، والحضارات المعاصرة، والترابط بينها يعني مطولات من الكتابات الفلسفية الممهدة لجمعها في سياق منطقي واحد، لكن دواعي وجودها في هذا المقال وفي موضوع واحد جاء بسبب أحداث ومجريات واقعية أملت على كاتبها وضع مقاربات تصورية يمكن من خلالها فهم هذا الواقع وما سيترتب عليها من تحولات حضارية محتملة، فالملاحظات الأولى قائمة على فهم ما يحدث في أماكن عدة من العالم وصراعات شعبوية تتشابه في معطياتها الدافعة للفعل الاحتجاجي، ولكن المواقف الدولية والرسمية تُظهر تبايناً في الحكم والتعاطي معها"على رغم المرجعية الليبرالية والحقوقية الواحدة التي تنطلق منها تلك الدوائر الرسمية في معالجتها لتلك الأحداث، فالثورات العربية خرجت في أكثر من بلد وبأسباب قد تكون متشابهة كالشعور بالمظلومية والاستبداد واستحوذ أقلية سلطوية على مقدرات الشعب بأكمله، ولكن ما يهمنا هو ذاك التباين الغربي ومعه دوائره وحلفاؤه في التعاطي مع تلك الثورات، فالتجاوب السريع والتدخل المباشر في ليبيا لم يحدث في سورية، والتأييد الغربي لثورة 25 يناير في مصر أختلف بعد ذلك إلى موقف معارض أو قلق وحاذر عندما فاز الإسلاميون في عدد من الانتخابات المتعلقة بالرئاسة والشورى والاستفتاء على الدستور، ومن ثمَّ أصبح لهم موقف داعم وغير معلن لما حدث في الثالث من تموز يوليو الجاري، وفي كل هذه التباينات هناك قاعدة مرجعية واحدة تنطلق منها المواقف الرسمية والدولية كافة وهي القيم الديموقراطية والحرية السياسية وحق الشعوب في الاختيار والاستقلال، وهذا ما يدعو للحيرة والتساؤل. إذاً المشهد الأول من ازدواجية المعايير الغربية، ليس هو المشهد الوحيد فقد أحدثت الظروف والأزمات الاقتصادية والسياسية عدداً من الصور المماثلة وانتجت حراكاً شعبياً شبابياً متكرراً في أكثر من مكان، مرة في بريطانيا كما في أحداث الشغب الطلابي في آب أغسطس 2011، ومرة في الولاياتالمتحدة الأميركية باسم حركة"احتلوا وول الستريت"التي بدأت في أيلول سبتمبر 2011 وتعاطت معها عدد من عواصم العالم، وها هي تعود التظاهرات الاحتجاجية مرة أخرى في لوس أنجليس وبعض المدن الأميركية بعد تبرئة المحكمة الفيديرالية الشرطي جورج زيمرمان من جريمة قتل الشاب الأسود تريفون مارتن التي حدثت في 14 تموز يوليو الماضي ولا تزال تداعياتها حتى اليوم. وحتى فرنسا لم تسلم من حراك الاحتجاجات الشعبية ولعل أشدها ما حصل في أحداث شغب ضواحي باريس 2005 وما يحدث بشكل أقل هذه الأيام في ضاحية"تراب"بباريس، أيضاً هناك البرازيل وتركيا وبورما واليونان وأسبانيا وروسيا وغيرها تموج بحراك احتجاجي وصدامي يزيد وينقص ولكنه لا يقف، هذه الصور والمشاهد تعرضها وسائل الإعلام بطريقة مجتزأة من دون ربط وتحليل موضوعي للدوافع والأسباب. وهنا نحتاج إلى تقريب المشهد، كذلك نحتاج للصعود من علو لمعرفة أبعاد الصور والجوانب المعتمة التي لا تصل لها كاميرات الأخبار. ويمكن تصوير الأمر من خلال هذه الرؤى الثلاث: أولاً أن الأحداث تنطلق بفعل جمعي وشعبوي بعيداً عن الدوافع الحزبية والسياسية، ثانياً أن المطالبات الاحتجاجية تخرج للشارع وينضوي تحتها مختلف التيارات لوجود مبدأ حقوقي وقيمي كرفع مظلمة أو غلاء المعيشة أو إسقاط قانون متعسف، ثالثاً أنها لم تعد تستجيب لوعود الساسة وإغراءات الحكومة وتشعر بأنها في مواجهة تتجاوز الدوائر القانونية والقضائية نحو عرض القوة والضغط السلمي نحو التغيير. هذا التحليل لو تناولناه على المدى البعيد وليس القريب لوجدنا أن مفردة الصراع القيمي تتماهى قرباً مع التحول الحضاري، والمقدمات التاريخية التالية قد توضح هذا المقصد وتقربه للفهم: أولاً: الحضارات ذهنيات جماعية، تملي المواقف وتوجه الاختيارات وتعمّق الأفكار الماقبلية وتغير وجهة حركات المجتمع، وهي أمر حضاري بأتم معنى الكلمة، إنها عدوى كبيرة تتناقلها مجتمعات وتؤمن بها من دون اكتراث بالضغوط والمصالح السياسية انظر: قواعد لغة الحضارات لبروديل 75. هذه الحال من التواصل القيمي والثقافي العابر للحدود يعني أن المتغيرات الحضارية تسري كالحرارة في جسد المجتمعات، وبالتالي قد تشعر بانسياب جديد لمفاهيم تهز أماكن القوة بصمت ونعومة، وأحياناً تكون تلك القيم بُنى سيكيولوجية على حدّ تعبير المؤرخ الفرنسي ألفونس دوبران، وما يرى ويلحظ في العالم أن الاحتجاجات الجماهيرية أو الافتراضية في شبكات التواصل باتت لغة معبرة لمطالبات الشعوب وتحولها لأنماط جديدة يجب التأمل كثيراً عندها، كما أن قنوات الاحتواء لتلك المطالب باتت عاجزة وغير موثوقة لدى المجتمعات"بل أصبحت هرمة ومتكلسة لا تستطيع التواكب مع معطيات الأجيال الإلكترونية. ثانياً: الزيادة الديموغرافية للسكان مفيدة لازدهار الحضارات كما كان الحال في أوروبا في القرون 13 و16 و18 و19 و20 ولكنها تصبح مضرة وخطرة في حال تزايد السكان بوتيرة أسرع من النمو الاقتصادي، باستقراء المؤرخ الفرنسي بروديل المرجع السابق72 وبالتالي قد تحدث تغيرات حضارية تنتج من صراعات وإخفاقات مجاعية أو كوارث وبائية كما حصل في أواخر القرن السادس عشر في أوروبا، وملامحه تحدث اليوم في أوروبا ليس لأن الزيادة السكانية خطر مهدد للاقتصاد الأوروبي، بل لأن الاقتصاد الاستهلاكي المحموم لم يعد يشفي نهم المواطن الغربي وبالتالي ظهرت أزمته من طبيعة التناول الباذخ للموارد العالمية، وكما قال أيريك فروم فإن العصر الصناعي أوجد طاقة ونشوة بالغة في تحقيق كل الأمنيات ولو كانت مهدداتها على الأرض خطيرة انظر: الحداثة الفلسفية لسبيلا وبنعبد العالي 226، فالصراع على الماء والطاقة مهدد قادم للبشرية، إلا أننا أمام مهدد مستفز وهو حفاظ الغرب على نمطه المعيشي المترف من دون الشعور بما قد يسببه ذلك من صدام اقتصادي ومواجهة قيمية مع مجتمعات الوفرة في خيراتها الفقيرة في استغلالها، وهذا من وجهة نظري يعتبر من أخطر المنعطفات التاريخية وسبباً في عدد من التحولات حضارية، ونجاحها في القرن الماضي نهباً واستعماراً لا يعني القدرة على تكرارها اليوم، لأن ذلك في غاية العسر نظراً لتفاقم الأزمة الاقتصادية وقوة المؤسسات الحقوقية بمواثيقها ومعاهداتها الأممية، ولكنها قد تستطيع ذلك بالتلاعب القيمي بزج الفلسفات التفكيكية وما بعد الحداثية للتسيّد في الجامعات ومراكز الفكر، وبتهييج الثورات في الدول الضعيفة ونشر الدعايات الاستهلاكية وتشجيع الشعوب على النموذج الأوروبي الناعم المترف الذي يستدعي الأغنياء للاستجابة والمحاكاة، والفقراء للاحتجاج والمواجهة. ثالثاً: تتمركز الحضارة الأوروبية بشكل خاص في قلب العالم حضوراً وإنتاجاً للمادة والقيم والحقوق والمعارف والفنون وغيرها، ولكنها اليوم لم تعد ذلك الشاب الطامح والقادر على فرض سيطرته على العالم كما كان، إنه يحاول أن يعيش شيخوخته من دون تهديد من أحد، ووفق نمطه الترفيهي الباذخ الذي انتجه عصر الثورة الصناعية والتقنية، بينما تتربص في الجنوب مجتمعات شابة استلهمت هذا النموذج وتقمصت قيمه ومفهومه للحقوق، وأصبحت حقوق الإنسان والديموقراطية أهم قيم تلك المجتمعات الطامحة، والمتوقع في مجال التحول الحضاري أن من انتج تلك القيم لم يعد متحمساً لها أو مدافعاً عنها خصوصاً إذا ظهر صدامها لمصالحه، بينما تلك المجتمعات الناشطة كالدول العربية أو اللاتينية، تعيش حيرة وتيهاً قيمياً لأدبيات غربية تريد أن تضحي من أجلها ولكنها اكتشفت أنها خدعة احترافية صدّرتها القيم الاقتصادية النفعية وصدّقتها القيم الأخلاقية للشعوب المتطلعة للحرية والعدالة الاجتماعية، وهذا ما جعل الاحتجاجات تزداد شراسة ضد العولمة كلما اكتشفوا مزيداً من زيفها الخادع لهم. ولنا أن نتساءل: هل ستعود القيم الإنسانية إلى بيئاتها الصحيّة الصحيحة بعد أفولها في عالم الغرب؟ وهل ستكون العودة سلمية أم تحمل معها معاول الهدم والانتقام؟ في وقت تتنامى فيه الإثنيات والأصوليات في عدد من المجتمعات الشابة انظر كتاب ندوة اليونسكو: القيم إلى أين، بحث جياني فاتيمو /نحو أفول القيم/ 26 -35 ، وابن خلدون يرى من خلال استقرائه للتاريخ أن الأمم المتوحشة أقدر على التغلب ممن سواها، وهو بالتالي يرشح البداوة في الحصول على هذه الغلبة نتيجة لخشونة المعاش والشدة في السجابا والطبائع أنظر: مقدمة ابن خلدون 125 والعرب والأفارقة والأتراك يجتمع فيهم اليوم وصف المجتمعات الشابة والخشنة مما قد يحرك هذه المجتمعات للزحف نحو جيرانها أهل الشمال"إما هجرةً أو سيطرة. رابعاً: ونحن في قمة عولمة السوق والإعلام والتقنية والسياحة وكذا في قمة المأسسة لحقوق الإنسان وبث قيم الديموقراطية، يذكر المفكر الفرنسي جان بودريار أن صداماً واقعياً ألغى كلية القيم أمام عولمة السوق وانتشار التسليع المادي لكل ما حولنا"ما سيلاشي الخصوصية والكلية لتلك القيم الحقوقية والمفاهيم الديموقراطية، والنتيجة الأخرى المتوقعة هو انتفاضة الفرديات سواء كانت ناعمة إذا أخذت طابع الثقافة واللغة والفن، أو عنيفة إذا كانت انتفاضة دينية أو ثورة جوعى لأجل تحقيق العدالة المسلوبة، انظر: المرجع السابق، بحث"من الكلي إلى المفرد. عنف العالمية"لبودريار 40-45. وهذا ما يفاقم صعوبة السيطرة على تلك الدوافع أو احتوائها في قوالب مُقنعة، ومع انتشار الشبكات العنكبوتية ووجود منابر افتراضية للتعبير المتحرر من كل قيود المنع والقمع، سنقف بلا شك أمام معطيات قيمية تتنامى بسرعة نمو الخلايا في جسم الأجنة، فلا ندري حينها كيف سيخرج ذلك المولود المشبع بالصور ومشاهدات الفيديو والأفكار التي تتسلل لعقله من دون توقف؟! هذه المعطيات الحضارية وغيرها كثير أصبحت تتشكل ببطء وتموج تحت السطح، مؤذنة بتغيرات في تاريخ المجتمعات الإنسانية اليوم، ربما كان تصاعد الاحتجاجات الشبابية والشعبوية شاهداً على شعورنا بهذا التحول العميق أو هو ما ظهر لنا من رأس جبل الجليد، ويبقى المقصود الرئيس في هذا المقال هو التأكيد أن صراع القيم اليوم يشكّل المحفز المؤثر في انتفاضة الشعوب ضد براغماتية القيم أو كذبها أحياناً أو ازدواجية معاييرها، الأمر الذي يذكي في تلك المجتمعات الرغبة في سلوك مسارات جانحة، أو ربما مانحة للخير والسلام في الأرض، وكما قال الله تعالى:"وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"محمد 38. * كاتب سعودي