غلبت الليبرالية في أواخر القرن الثامن عشر الأوروبي. والسبب في غلبتها هو إجابتها المبتكرة عن مسائل الحكم في الكيانات السياسية وتخطيها الوقوع إما في نظام تمزقه الأحزاب وصراعاتها أو في نظام يتربع على رأسه حاكم آمر وقاهر، أو في ضرب ثالث من الأنظمة يجمع بين العلتين. وخرجت الديموقراطية من الإدانة القديمة بالانشقاق والتآكل بعد أن أرست بنياناً متيناً قوامه التمثيل والحريات، واختُبر هذا البنيان. فيجوز القول في ضوء هذه الملاحظة أن الليبرالية هي أولاً بنيان حكم استعار من الحكومة اليونانية والرومانية، الجمهورية القديمة، صورتها وزاد عليها البنيان التمثيلي. واكتشاف المحدثين الكبير تناولته"أوراق الفيديرالية"الأميركية، أبرز الأعمال الفكرية والسياسية الديموقراطية والليبرالية التي كتبها جايمس ماديسون وألكسندر هاميلتون وجون جاي ودعوا فيها ناخبي ولاية نيويورك إلى المصادقة على دستور الولاياتالمتحدة الأميركية. وقد يُحمل البنيان الديموقراطي الحديث على سمة بارزة واحدة هي إعمال فصل السلطات في النظام الملكي. ويفترض هذا الفصل إنشاء سلطة تمثيلية منتخبة. فكانت غلبة الحكم الليبرالي التمثيلي ثمرة رافدين خلص إليهما التاريخ السياسي الأوروبي، هما الجمهورية القديمة والملكية الحديثة. وثمة بُعد ملكي في الديموقراطية الحديثة، ويتجلى في الحكومة، ومزاولتها السلطة التنفيذية. وكانت الجمهورية تقتصر على"ولايات"أو"أعمال"يتولاها ولاة أو عمال. والسلطة التنفيذية هي أم السلطات، وتبث الحياة فيها كلها. وهي تخلف الملك على تحريكه عجلة الحكم، كما يُرى في حال الولاياتالمتحدة. فالليبرالية هي الحكومة المثلى التي انتهى إليها التاريخ الأوروبي، وتوسل بها إلى تخطي مشكلاته وترجحه بين الفرض الجمهوري والفرض الملكي. والليبرالية هي مذهب سياسي، على خلاف فكرة أشاعها كارل شميدت في مقالته"المفهوم عما هو السياسي". فهو نفى وجود سياسة ليبرالية خاصة، ورأى أن الليبرالية تقتصر على نقد السياسة ولا دراية لها بالسياسة ولا علم لها بها. ولكن كارل شميدت مخطئ: فالجمهورية الليبرالية، قياساً على الأنشطة غير السياسية مثل الاقتصاد والدين والثقافة التي تحضنها وترى تكاثرها واستقلالها، تضعف صبغة الحكم السياسية ولكنها لا تلغي روابط الحكومة. وهؤلاء الأفراد الذين يتألف منهم مجتمع سياسي هم منتجون أحرار، ومؤمنون أو غير مؤمنين أحرار، وأشخاص يتمتعون بالخصوصية، هم يحكمون بأنفسهم بواسطة نظام غير مسبوق هو النظام الليبرالي. وأعداء الليبرالية موقنون بأن الليبرالية تفتقر إلى السياسة وليس في مقدورها فهم السياسة. والليبراليون أنفسهم يشاركون أعداءهم مثل هذا اليقين. فهم يحسبون أن الليبرالية هي اعتقاد من يحلون محل الحكومة ما يسمونه"قواعد العمل أو اللعبة، و"الإوالية"الميكانيسم. ويشكك الاعتقاد الليبرالي في الحكم أو في من يتولون"الحكم"في كل الحقول: السياسي والاجتماعي والعائلي والديني. وهم يقيمون نظام"موازنة السلطات"، أو نظام"المفاتيح والغالات"، ويقيدون به تعسف الحكام، محل مباشرة السلطة من فوق. ولكن الموازنة والقيود والمراقبة لا تلغي الحكومة ولا تضعفها، بل تسعى في تحسين عملها. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر ورسوخ البنيان الليبرالي في إنكلترا، لاحظ الأوروبيون أن الشعوب التي تسوس أمورها بواسطة الحكومة الليبرالية أو التمثيلية تحصل حكوماتها على نتائج أفضل من تلك التي تحصل عليها الحكومات غير الليبرالية، وتحكم"أكثر"منها وفوق ما تحكم. وما يرغب فيه المواطن هو أن تحسن الحكومة حكمه، وليس أن تحكمه حكومة ليبرالية أو اشتراكية أو مسيحية، وأن يشترك في حكومة تحسن الحكم إذا ندب إلى المشاركة. والمواطنون الأوروبيون، عموماً، ليبراليون في السياسة لأن تجربتهم تقودهم إلى الإقرار بأن الهيئات والأعراف الليبرالية تقود إلى حكومة تضطلع بمهماتها على وجه أفضل من الحكومات الأخرى. وفي أوقات تاريخية متفرقة ساد شعور بأن الحكومة الليبرالية تقصر عن الاضطلاع بمهماتها، وتعجز عنها، بينما تقوم أنماط أخرى من الحكم بمهماتها ووظائفها على نحو ناجع وأكثر جدارة. والأنظمة المتسلطة، الفاشية والكليانية الشمولية، في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، لم تكن ثمرة"انحراف"بعض الأمم الأوروبية أو الأحزاب التي غلبت عليها، بل كانت كذلك صدى شعور قوي بعجز الأنظمة الليبرالية عن القيام بوظائف الحكم وأعبائه الثقيلة. ويقودني هذا إلى تمييز الليبرالية السياسية من الليبرالية الاقتصادية. ولهذا التمييز مسوغاته. وأرى أن الليبراليتين ليستا على مرتبة منطقية واحدة، ولا على المستوى الأخلاقي نفسه. فالليبرالية السياسية لها الأولوية والصدارة لأن صلاح الحكم خيرٌ يتقدم غيره من الخيرات، وهو شرطها وأخصها بطبيعة البشر، على ما كان يحسب اليونانيون. وعلى رغم الجدوى الاقتصادية الليبرالية، على الأمد الطويل، فأنا لا احتسب الازدهار الاقتصاد في الخيرات الأولى. وهو ينطوي على ثمرات مسمومة مثل تدمير الطبيعة وميوعة الأخلاق الناجمة عن البحبوجة واسترخائها. وليس للحكم الحسن نتائج سالبة، على ما أعلم، ولا معنى للقول إن حكماً يبالغ في الصلاح أو يغالي فيه. والوجهان لا ينفصلان عملياً. والمواطنون الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم بواسطة من يندبونهم إلى الحكم يتشاغلون، من وجه آخر، بإبراز مواهبهم وفضائلهم في الأنشطة الحرة التي تصدر عن المجتمع المدني ولا يقتصر عليها. وهناك توافق وتوارد بين دواعي المواطن الذي يرغب في حكم نفسه بنفسه وبين تلك التي تحمل الشريك الاجتماعي على إبراز مواهبه واستقلاله ومبادرته. والحرية الاقتصادية لا غنى عنها للحرية السياسية، فهي تعزز النمو الذي يوفق بين تطلعات السواد الأعظم وبين رغبات النخبة القليلة. وهذا الفائض يتيح منذ أجيال التوسط بين الطبقات الاجتماعية، وتخطي ما كان يسمى الصراع الطبقي. وتؤدي"الحرب"على الطبيعة الدور الذي أداه في ما مضى التوسع الخارجي. وسبق أن شرح عدد من كبار المؤرخين علاقة التوسع الروماني بصراع الطبقات الداخلي على وجهيها: فالتوسع هو التعبير عن هذا الصراع وهو حله وعلاجه معاً. وأدى النمو الاقتصادي، والحرب على الطبيعة متحركة، دور التوسع الأمبراطوري في تاريخ أوروبا أو الغرب الحديث، والسوق الحرة محرك طاقة إنسانية واجتماعية عظيمة، وهي السوق تتولى ضبط هذه الطاقة، في آن. وهذا الضبط التلقائي ليس كافياً. فالشركاء الاجتماعيون الذين تحفز السوق طاقاتهم وهممهم عليهم كذلك أن يتولوا حكم انفسهم بأنفسهم، وأن يعهدوا إلى"حكومة اقتصادية"بشطر من التدبير. وهذا ليس بالأمر اليسير. فالطاقة التي تحررها السوق، شأن الطاقة الحربية، لا تنقاد من غير إكراه إلى سوسها وضبطها من خارج. والقرينة على قوة حجة السوق الإقرار للمنافسة"الخالصة وغير المقيدة"بسطوة تشبه التقديس. فيضرب أنصار المنافسة الخالصة عرض الحائط بالحجج السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تسوّغ اضطلاع"سوق وطنية"أو محلية باستثمار موارد يرتب كلفة أعلى من تلك التي كانت لتترتب على استثمار يراعي معايير المنافسة الخالصة. ويلاحظ أن الميزات التنافسية والتفاضلية التي نص عليها آدم سميث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر استخرجت من أجسام اقتصادية ووطنية متجانسة هي بريطانيا وفرنسا وهولندا. وهي دول أوروبية، نطاقها الجغرافي واحد: والمقارنة، اليوم، تتناول الصين وفرنسا. وهما بلدان بعيدان جداً من التجانس. وتقرّب بينهما المواصلات السريعة ووسائل الاتصال الحديثة. فلا تصح نظرية المبادلة الحرة فيهما. والاقتصاد الوطني الذي كان إطار إنتاج الجسم الاجتماعي، المدني والسياسي، دخل طور الاضمحلال منذ 20 أو 30 سنة. والشركات الكبيرة"الوطنية"تجني معظم أرباحها خارج حدود أوطانها. ويتقاضى المواطنون داخل بلدانهم، تعويضاتهم الصحية، وتعويضات البطالة والتقاعد... فالجماعة السياسية الوطنية لم تعد إطار الإنتاج والعمل"الوطنيين". وهذا ما لا جواب عنه عند الليبراليين أو عند غير الليبراليين. فلا علاج لانفصال الإطارين بالحمائية المفترضة: فما تفترض"حمايته"ليس داخل حدود البلد، وفتح الحدود يقضي ببطالة نصف اليد العاملة. والعولمة، وهي اسم هذا الانفصال، حملت الشركاء الاجتماعيين، المواطنين والمنتجين، على بذل طاقاتهم خارج البلد، في اطر غير استعمارية أو كولونيالية تولت الولاياتالمتحدة فرضها على أوروبا والعالم. وليست غاية التوسع الأميركي فتح السوق وحمايتها من المنافسة أو ضمها إلى"امبراطورية"مغلقة، بل دمج السوق المحلية في سوق واحدة ومتصلة. وذروة هذه السيرورة هي"دخول"السوق الصينية. وهذا الدخول أدى إلى جرح أميركي عميق: اختلال الميزان التجاري ودين ضخم معظمه بيد الصين. وإلى اليوم كانت الفوائض الأميركية، العسكرية والمالية، ركن العلاقات الاقتصادية الدولية، والأوروبية على الخصوص. وحل العجز محل الفوائض. وأدى هذا إلى تعاقب الأزمات وتسلسلها من أفغانستان إلى مصر، وإلى غل القوة الأميركية، والقوة الأوروبية معها. والقوتان تقاتلان على الحدود العالمية من غير اقتناع شعوبهما. وبينما تنتبه"الشعوب الناشئة"إلى الوجه السياسي والسلطوي من الإنتاج والتبادل، يصر الأوروبيون والأميركيون على تأويل المبادئ الليبرالية تأويلاً حقوقياً وغير سياسي. * مدير بحوث في المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية، عن"كومونتير"الفرنسية، ربيع 2013، إعداد م. ن.