الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء النسيج الاجتماعي، والأسرة قديمة قدم الخليقة، لذا فقد استوعبت عبر تاريخها الطويل ذلك الركام الهائل من الثقافة الإنسانية، الذي يعكس كل التغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المجتمعات، ولهذا كونت النقطة الأولى التي يبدأ منها التطور فهي الوسط الطبيعي الاجتماعي الذي يترعرع فيه الفرد، ويبذل الأبوان الغالي والنفيس من أجل تربية أبنائهم وتنشئتهم وتعليمهم، فالأبناء أمانة في عنق آبائهم، يولدون بقلوبهم الطاهرة الخالية من كل نقش وصورة، قابلون لكل ما ينقش عليها، ففي كثير من الأحيان يجد الفرد داخل إطار أسرته المناخ المناسب للإبداع الأدبي أو العلمي، فالأسرة هي المنشأ الذي تتفتح عليه عينا الفرد، ومن خلالها يتهيأ للتعامل مع مجتمعه الأكبر أو وطنه المحيط به، فإذا ما نبت في أسرة علمية فإن ميوله - في الأغلب الأعم - ستكون ميولاً علمية، ويأتي ذلك من عامل الوراثة الذي يعنى انتقال صفات الأفراد من جيل إلى آخر، فالطفل يرث من أبويه الصفات الجسمانية، كما يرث أيضاً القدرات العقلية، وأبرز هذه القدرات التي تورث هي الذكاء. فالأسرة هي مدرسة أفرادها تقوم بتنشئتهم اجتماعياً، كما أنها تعمل على نقل الاهتمامات والميول من جيل إلى جيل، وتعودهم على التقاليد، بخاصة الآداب العامة والسلوك والدين والعلوم، ومن ثم فإن وظيفتها هي إعداد الفرد ليصبح نواة في المجتمع وأساساً من أسس تكوينه، الأمر الذي يساعد على تقويمه وتقويته، وهذه العوامل الوراثية ليست بالعامل الهين، وليست بالعامل الوحيد، لكنها تؤثر تأثيراً إيجابياً في توارث ميول واهتمامات الآباء لأبنائهم، الأمر الذي يميز أسر بعينها ينبغ أفرادها في مجالات علمية واحدة، هذا ما يقدمه الدكتور خالد حربي من خلال تساؤله الذي يطرحه:"هل شهد تاريخ علوم الحضارة الإسلامية وجود أسر علمية تربطها علاقات دم أو قرابة؟". سؤال يحاول أن يجيب عليه في كتابه"الأسر العلمية ظاهرة فريدة في الحضارة الإسلامية"، الذي صدر في مصر أخيراً عن"المكتب الجامعي الحديث"بالإسكندرية، ليؤكد أن عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، الذي عاشه العالم الإسلامي قد شهد نبوغ أسر أو عائلات اشتغلت بالعلم، وكانت تربطها علاقات دم أو قرابة عملت وفق أطر معينة ومنهج محدد من أجل ازدهار وتقدم العلوم التي احتوتها حركة النهضة العلمية. ومؤلف الكتاب الدكتور خالد حربي أستاذ وخبير المخطوطات بجامعة الإسكندرية ومن المهتمين بالتراث الإسلامي، وله أكثر من أربعين مؤلفاً تهتم بالتراث العلمي الإسلامي وله مسيرة علمية حافلة توجها أخيراً بحصوله على جائزة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في مجال الفقه الطبي وتحقيق التراث وفق أصول فن التحقيق، والتي تعد من أرقى الجوائز العربية والعالمية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي. يؤكد من خلال مؤلفه هذا أن تاريخ علوم الحضارة الإسلامية شهد الكثير من الأسر العلمية التي يربط أفرادها قبل الاشتغال بالعلم علاقات دم أو قرابة، وربما كانت هذه العلاقات أحد الأسباب الرئيسة التي ساعدت على نبوغ تلك الأسر في المجال العلمي، وتعد مثل هذه الأسر ظاهرة فريدة تنفرد بها الحضارة العربية الإسلامية عن سائر الحضارات، هذه الأسر قامت بينها علاقات تعاون وتنافس وصراع، ومن أمثلة هذه الأسر أسرة بختشيوع، التي نبغ أفرادها في علم الطب إلى درجة أنهم خدموا الخلفاء ابتداءً من الجد الأكبر ومروراً ببعض الأبناء والأحفاد، فضلاً عن مساهماتها في حركة النقل والترجمة، وأسرة حنين بن إسحق التي اشتهرت في مجال الترجمة، وأسرة ثابت بن قرة، وأسرة موسى بن شاكر، التي نبغت في الفلك والهندسة والميكانيكا والمساحة والفيزياء، وأسرة بنى زُهر في المجال الطبي، الأمر الذي يؤكد أن تاريخ العالم العربي الإسلامي قد شهد أسراً علمية نبغت في مجالات علمية واحدة، ويحاول المؤلف أن يشدد على أن النماذج التي قدمها للأسر العلمية التي شهدها التاريخ العلمي الإسلامي ليست كل الأسر بل هي عبارة عن نماذج تحاول أن تجيب على التساؤل الذي طرحته الدراسة ص 6. وقسم المؤلف الكتاب إلى مقدمة وبابين اشتمل كل باب منهما على فصلين ثم اختتم بفصل أخير عن نتائج الدراسة، في الباب الأول عرف بأسر حركة الترجمة والنقل، وهي أسر بنو حنين بن إسحق، وبنو قرة، وبنو بختشيوع، وفي الباب الثاني عرض لأسر العلوم البحتة، وهي أسر بنو موسى بن شاكر، وبنو زُهر، وخلص الباحث في النهاية إلى أن النهضة العلمية التي عاشها العالم الإسلامي كان من أبرز سماتها وجود أسر علمية نشطة تعمل وفق منهج محدد من أجل ازدهار العلوم، ولعبت دوراً بارزاً في حركة تقدم العلوم. ومن تحليله لهذه الأسر العلمية وتتبعها اتضح مدى التواصل العلمي بين أفراد الأسر والجماعات العلمية المختلفة رغبة في العلم الذي خلع على أهله في ذلك العصر إجلالاً وتوقيراً من العامة والخاصة. وقد سادت بين هذه الأسر نظم من العلاقات قائمة على التعاون والمحبة. كما اتضح من خلال البحث أن النشاط العلمي لمعظم الأسر العلمية التي تناولها المؤلف لم يقتصر على أفراد الأسرة الدموية، بل إن الأسرة الواحدة ضمت في بنيتها العلمية أفراداً لا تربطهم بالأسرة صلات دم أو قرابة. وفي الفصل الأول قدم المؤلف نموذجا لأسرة نبغت في مجال حركة الترجمة والنقل في العلوم الطبية، وهي أسرة حنين بن إسحق، وذلك بترجمة مؤسسها وخصائص عمله العلمي من إرساء قواعد علمية ثابتة، واتساع مجال نشاط الأسرة إلى تحقيق النصوص الإغريقية، وترجمة الكتب من علوم الحضارات الأخرى إلى اللغة العربية، ثم عرف بإسحق بن حنين الذي تفرد عن أبيه وأستاذه بميزة مهمة في تقاليد الأسرة وهي تنوع التخصصات في ممارسة العلم، فإذا كانت مدرسة حنين بن إسحق اختصت في ترجمة الكتب الطبية، فإن إسحق بن حنين ترجم كتباً في الفلسفة والمنطق لأشهر الفلاسفة اليونانيين كأرسطو، كما ضمت الأسرة حبيش بن الأعسم ابن أخت مؤسسها، وكان أقرب تلاميذه إليه وأكثرهم قرباً منه وملازمةً له، الأمر الذي جعله أحد دعائم الأسرة الرئيسة التي ارتكزت عليها مدرسة حنين بن إسحق في الترجمة. وفي الفصل الثاني تناول الدكتور حربي أسرتين برزتا كذلك في مجال الترجمة هما: بنو قرة، وبنو بختشيوع. ضمت الأولى ثابت بني قرة الذي انصب على ترجمة المؤلفات الطبية، فضلاً عن بعض الترجمات الفلسفية، وابنه سنان، وحفيده ثابت بن سنان، وضمت هذه الأسرة أفراداً لا يرتبطون بصلات دم أو قرابة ببنيتها العلمية كعيسى بن أُسيد الذي تتلمذ على يد مؤسس الأسرة، وأظهر نبوغاً، واستحق تقديم ثابت بن قرة إياه، للدرجة التي سمح له بمناظرته، وهو تقليد علمي لا يوجد إلا في المجتمعات العلمية المتقدمة الراقية في العلم، وأسرة بختشيوع التي قدمت إلى بغداد ونبغت في الترجمات الطبية دون غيرها، واختصت كذلك بالتعليم الطبي، وأول من وفد منها إلى بغداد جورجيس بن بختشيوع الذي استقدمه الخليفة العباسي المنصور، وصار طبيبه الخاص إلى أن توفي في خلافته، ثم استقدم المهدي من جنديسابور ولده بختشيوع ليحل محل والده جورجيس فظل في خدمته وخدمة الهادي والرشيد طبيباً حاذقاً، وبعد وفاته استقدم الرشيد ابنه جبرائيل وصار طبيبه الخاص وجعله رئيساً للأطباء، وظل كذلك زمن الأمين والمأمون حتى توفي في خلافة الأخير. وفي الفصل الثالث توقف الباحث أمام نقد أسر الترجمة والنقل وإلى أي مدى ينطبق عليها مفهوم الأسرة العلمية، ودورها في النهوض بالحضارة الإسلامية، ليؤكد أن المجتمع العلمي الإسلامي شهد إبان عصر الترجمة وجود أسر علمية، شهدت تعاوناً وتنافساً انعكسا على نهضة الحضارة الإسلامية. وفي الفصل الرابع عرض أسرة نبغت في العلوم البحتة كالفلك والهندسة والميكانيكا والمساحة والفيزياء وهي أسرة بني موسى بن شاكر التي ضمت الأبناء الثلاثة محمد وأحمد والحسن لموسى بن شاكر، الذي لم يقدر له أن يعمل في تلك الجماعة العلمية لأنه توفي وهم أطفال، فكون هؤلاء الإخوة الثلاثة جماعة علمية متآزرة قدمت أعمالاً جليلةً، وازدادت حصيلتهم العلمية، وتطورت أساليبهم التطبيقية إلى الدرجة التي مكنتهم من القيام بأول وأهم وأخطر عمل، وهو قياس محيط الأرض، الأمر الذي مكنها من أن تلعب دوراً في تاريخ العلم وتشكل مكاناً رئيساً في تاريخ التكنولوجيا بصفة خاصة. وقد تناول هذه الأسرة من خلال توضيح تكوينها العلمي وكيفية عملها، ومنهجها العلمي والتطبيقي، وأهم إنجازاتها العلمية، وأثرها في النهضة الإسلامية. أما الفصل الخامس فكان لأسرة بني زُهر التي ظهرت في الأندلس خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الهجريين، ونبغت في مجال العلوم الطبية، وشكلت مكانًا رئيساً في الطب العربي والعالمي، فرأينا رأس هذه العائلة أبا مروان يتقن صناعة الطب حتى صار خبيراً بأعمالها، ومشهوراً بالحذق فيها إلى الدرجة التي معها انتشرت أخباره في مختلف أقطار الأندلس، ثم حرص على نقل خبرته إلى ابنه أبي العلاء الذي أظهر نبوغاً مبكراً واستمراراً للتواصل العلمي بين أفراد الأسرة لحق أبي مروان بن أبي العلاء بأبيه في صناعة الطب درساً وممارسة، حتى أصبح لا يوجد من يماثله في إدراكه لأعمال الطب، ثم برز الحفيد أبو بكر محمد بن أبي مروان لتتأكد به وتستمر التقاليد العلمية في أسرة بني زُهر لتتواصل إنجازات الأسرة العلمية. وفي نهاية الكتاب خلص الدكتور حربي إلى نتيجة نهائية مهمة تدعو الباحثين إلى الاهتمام بدراسة الأسر العلمية في تاريخ الحضارة الإسلامية، بالبحث والتنقيب عن مؤلفاتهم التي لا تزال تهجع بسلام على أرفف المكتبات مخطوطة، وذلك بتحقيقها ونشرها لتفيد منها الإنسانية في مختلف فروع العلوم، وتؤرخ لدور العرب والمسلمين في تاريخ العلم العالمي لنتعرف إلى الأوجه المشرقة في التاريخ العربي والإسلامي.