لا يزال العالم الإسلامي موضوع البحث والدراسة فى أغلب الأكاديميات الغربية، ولا تزال العلاقات المتوترة بين الأديان والسياسة تمثل الإشكالية الكبرى لصعود مؤشرات التخلف وانطلاق محكمات التقدم تبعاً لاختلاف الآليات فى طابعها السالب والموجب، ولا تزال وستظل الشريعة محل قداسة عليا، لكن في الآن ذاته وفي المسار نفسه تكمن الحيرة والشتات والازدواج والخلاف الحاد حول طرائق التعامل معها وتفعيلها فى الواقع لتصبح هذه الشريعة في حالة من التطابق بين أدبياتها وقيمها الرفيعة وانعكاسات ذلك على إنهاض الواقع وارتقائه وسموه. ولعل الواقع المعيش في أغلب الدول الإسلامية إنما يمثل تناقضاً صارخاً بين معطياته ومثاليات الشرائع، ما يجعل هذا الواقع محل اتهام وإدانة لقصور أداء العقل الإسلامي عن استحداث طرائق ضامنة لسريان مقاصد الشريعة وتغلغلها وغاياتها فى خلاياه وأصلابه وكينونته عموماً، ولعل تلك المفارقة التاريخية ممتدة الجذور ماضياً وحاضراً، وتعد كذلك وبدرجة ما حكماً نسبياً على الطابع والظرف المستقبلي للحياة العربية والإسلامية، وهو ما يشكك الغرب في صلاحية الشريعة حين لا يصبح لها مثال آخر أو تجسيد مباشر هو الواقع الحي وليس الواقع المريض، فالمعادلة المستقيمة ?التي هي رأس الأمر- والتي غابت طويلاً، هي ضرورة التطابق والتماثل في الإنسان روحاً وعقلاً، ظاهراً وباطناً، فالتشدق بالإيمان له حتمياته، إذ إن الإيمان بالشىء يوجب على الأفراد أن يكونوا نموذحاً رائداً له. ولعل هذه القضية على إجمالها وتفصيلاتها كانت القضية المتصدرة نظرياً وتجريبياً في تقرير مؤسسة"بيو"الأميركية للأديان والحياة العامة، والذي جاء المسح فيه لنحو 39 دولة، منها مصر وأفغانستان وبنغلاديش وباكستان والعراق وتركيا ولبنان ونيجيريا وتونس وماليزيا وأندونيسيا، شاملاً أيضاً نحو 38 ألف شخص، حول موضوع"الديانة السياسية والمجتمع"، مؤكداً في كليات نتائجه أن أغلب المسلمين حول العالم إنما يؤيدون تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون رسمي في بلادهم، إلا أنهم ما زالوا يعايشون خطر الفرقة والانقسام والتحزب والتشرذم حول كيفية تطبيقها، وهو ما انعكس وتجلى بالفعل حول طبيعة العلاقة بين السياسة والإسلام على صعيد العديد من الدول. فالشرائع إنما تنطوي دوماً على حقائق لها درجة مطلقة من الثبات بينما معطيات السياسة وظروفها متغيرة مهتزة بالضرورة طبقاً للمصالح والأهواء، وإن إلباس الشرائع مسوح السياسة إنما يطمسها ويجعل لها طابعاً صراعياً يتنافى مع تلك القيم السامية التي تنادي بها الشرائع على اختلافها، فضلاً عن أن ذلك يعد عاملاً حاسماً في توظيف الشرائع في نطاق ضيق من الواقع المصلحي والحياتي للأفراد. وإذا كانت الشرائع حظيت منذ أماد طوال بشتى المذاهب والفرق والرؤى والمنظورات، فإن ذلك لم يؤد إلى تفتيت الشرائع نظراً لرسوخها الفطري وقوة تماسكها في العقول والأنفس، لكن ظل لها وقارها العلوي وهيبتها الأبدية، وقد يمثل هذا الخلاف نوعاً من الثراء المعرفي والفكري حين يخلو من الشطحات ولا يخرج عن أطواره، لكن حين استغلت الخلافات وبلغت من الاحتداد ما بلغت وبات كل يتكلم من خندق الشرائع طبقاً لدرجة وعيه وخلفيته الثقافية والفكرية، تعددت وتشعبت المنازع حول طرائق التعامل مع الشريعة بتطبيق حذافيرها وعمومياتها في الواقع، بما حاد عن مقاصدها العليا قليلاً وكثيراً. إن العالم العربي والإسلامي إنما يعتز كثيراً بعقيدته الإسلامية -التي هي موضع فخر حضاري? ولكن ذلك على المستوى النظري المنهجي الأيديولوجي وليس على المستوى الحركي، لذا فحين يتم استقصاء الواقع بحثاً عن نماذج قيمية وأنماط سلوكية منضبطة وهياكل متينة للعلاقات، لا تجد إلا ظلالاً شاحبة للشريعة. لذلك أشار تقرير"بيو"إلى أن المسلمين هم الفئة الأكثر قلقاً في المجتمع الدولي من غوائل التطرف الإسلامي المفضي بالضرورة لاستشراء أشكال متنوعة من العنف الديني. ولعل تقرير"بيو"على هذا النحو إنما يعد رسالة تحذيرية عاجلة للعالم الإسلامي نحو ضرورة تضييق الفجوة أو محوها، الفجوة بين الشريعة الإسلامية وحتمية إشراقاتها على الواقع ليستبدل بواقع آخر أكثر اتساقاً وتمثيلاً لتلك الشريعة التي تحمل في طياتها شفرات حل المعضلات العصرية التي تعايشها دول الغرب على إطلاقها، أو أنها الآفات الحضارية التي أعجزت القوانين الوضعية عن التماس وميض يحررها من المأزق التاريخي الذي يتمثل طرفاه في بروز الكيان الحضاري العملاق وتلك الهنات والسفاسف الاجتماعية والسياسية والثقافية المفضية إلى تآكل ذلك الكيان. ولعل تقرير"بيو"أيضاً أفاض في تحليل الوضعية العقائدية المعاصرة في مصر، فقد كان المصريون تواقين لتطبيق الشريعة الإسلامية تأكيداً لضرورة سيادة الحق والعدالة والحرية والمساواة والقيم الغائبة كافة، ذلك استعادة وإحياء للروح الإسلامية لشعب معروف بغلبة النزعة الدينية، لكن هذا التطبيق لا يتأتى إلا في وجود مرجعية دينية عتيدة وأهلية سياسية وقوامة ثقافية وفكرية. * كاتب مصري