يجتاز لبنان مرحلة بالغة الخطورة نتيجة إنخراط قوى سياسية وطائفية فاعلة فيه في الحرب الدائرة في سورية، بين جيش النظام وميليشياته وبين الجنود المنشقين المنضوين تحت راية الجيش الحر والثوار المدنيين بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم وارتباطاتهم ومعتقداتهم. وكان الهم الأكبر للقيادت السياسية اللبنانية الرئيسة، لدى اندلاع الانتفاضة في سورية، إبعاد لبنان عن لهيبها وتجنيبه تداعياتها على استقراره وسلمه الأهلي. وكان لقرار الحكومة المستقيلة باعتماد سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية تأثيره في إبقاء الوضع الأمني الهش ممسوكاً، وعدم الانزلاق إلى فتنة داخلية مدمرة. وكان في الإمكان نجاح هذه السياسة أكثر لولا عوامل عدة أثرت على فاعليتها، منها الانقسام العمودي بين مكونات المجتمع اللبناني حول الأزمة السورية، بين مؤيد للنظام وداعم له بقيادة"حزب الله"ومن ورائه الطائفة الشيعية، وبين مؤيد للثورة وداعماً لها بقيادة"تيار المستقبل"ومن خلفه الطائفة السنّية. وعلى رغم ذلك بقيت الأوضاع في لبنان مستقرة نسبياً خلال السنتين الأوليين، إذ لم يبلغ دعم الفريقين مرحلة الانغماس الكلي في الوحول السورية. والعامل الآخر تمثل في مساندة"حزب الله"النظام السوري سياسياً من خلال وضع الحكومة التي يسيطر على قرارها وأعمالها في خدمة هذا النظام، وميدانياً بإرساله مقاتلين بأعداد محدودة بذريعة الدفاع عن الشيعة اللبنانيين القاطنين في قرى سورية محاذية لمنطقة البقاع في لبنان. وفي الوقت ذاته ساند أهالي منطقة عكار في شمال لبنان، وهم في غالبيتهم من السنّة، الثوار السوريين في عمليات تهريب السلاح وتأمين مناطق لجوء آمنة لهم والانطلاق منها ثانية إلى الداخل السوري. ولم يكتف"حزب الله"بدعم النظام السوري بالمقاتلين بالسر وبأعداد محدودة، بل تعداه إلى الانخراط علانية وبقوة في الحرب السورية، من خلال مشاركة مئات وربما آلاف من عناصره المدربين على حرب الشوارع في الحرب الدائرة في بلدة القصير السورية والقرى المجاورة لها المتاخمة للبقاع اللبناني. ويشكّل هذا المحور مع ريف حمص أهمية كبرى في ربط دمشق بالمدن الساحلية السورية ذات الغالبية العلوية. ويستميت النظام و"حزب الله"في القتال من أجل السيطرة على هذه المنطقة الحيوية، التي تشكل جزءاً أساسياً من الهلال الشيعي التي تسعى إيران إلى إنشائه بمشاركة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس السوري بشارالأسد و"حزب الله"بحيث يمتد من إيران إلى شواطىء البحر المتوسط، ويشمل منطقتي البقاع والجنوب اللبنانيتين. وتداعيات هذا المخطط، في ما لو تحقق، ستكون كارثية على لبنان. ويناقض انخراط"حزب الله"الواسع في القتال بإمكانات كبيرة إلى جانب النظام السوري ضد الثورة الشعبية السورية، ما تم التفاهم عليه في"إعلان بعبدا"الذي وقّع عليه الحزب ويدعو إلى تحييد لبنان عن أزمات المنطقة، ويتعارض مع سياسة الحكومة المستقيلة بالنأي بالنفس في ما يجري في سورية، ويتعارض مع مصلحة لبنان وعلاقاته في المستقبل مع الشعب السوري. وما يمكن أن يؤدي إليه هذا التدخل الحاصل بأوامر مباشرة من إيران، من أجل الحفاظ على نفوذها ومصالحها في سورية في التسوية السياسية الجاري البحث عنها، من تداعيات خطرة على الواقع الداخلي اللبناني. وأدى انخراط الحزب في الحرب السورية إلى خسارة هالته السابقة المبنية على أعوام من مقاومة إسرائيل، وتحويل قوته من أجل مواجهة السوريين، وكشفاً لوجه مذهبي في الصراع الجاري في سورية. وأنهى"حزب الله"بانخراطه في الحرب السورية سياسة النأي بالنفس التي اعتمدتها الحكومة المستقيلة، بالتالي أدخل لبنان في الصراع الإقليمي الواسع، وعمّق الشرخ بين غالبية اللبنانيين المعترضين على زج لبنان في المحور السوري - الإيراني وبين الطائفة الشيعية التي أدخلها الحزب في هذه الحرب، وألحق الضرر بمصالح لبنان مع دول الخليج العربي. وأما عن دعوة بعض الجهات السلفية في لبنان إلى الجهاد لدعم السنّة في سورية، فإنها أشبه بفقاقيع ماء في الهواء، نظراً إلى عدم فاعليتها من ناحية قلة عدد المتوقع تجاوبهم مع هذه الدعوة وافتقادهم إلى التدريب الجيد والأسلحة الثقيلة، إضافة إلى أن الثورة السورية ليست بحاجة إلى الرجال، إذ تكمن حاجتها إلى الأسلحة النوعية. ويسود الاعتقاد أن ما يقوم به الأسد من استماتة في تحرير ريف حمص الواسع من الثوار هو جزء من الخطة"ب"، التي كثُر الكلام عنها في وسائل الإعلام، في حال فشل في استعادة ما فقده نظامه من أراضٍ سقطت في أيدي الثوار. أما تتمة الخطة فتتمثل في إقامة الدولة العلوية في الساحل السوري وريف حمص حتى الحدود مع العراق. وما يؤكد هذا المخطط الخطر قيام قوات الأسد بعمليات تدمير مبرمجة وهائلة للمدن والقرى السنّية في حمص وريفها الممتد إلى الحدود مع لبنان، وتهجير أهلها إلى مناطق بعيدة في الداخل السوري أو إلى لبنان، ومنعهم من العودة إليها إلا بعد حصولهم على موافقة خطية من المحافظ، وفي أكثر الأحيان يرفض المحافظ إعطاء هذه الموافقة إلى السنّة. وتشير التطورات في سورية إلى توقع ازدياد ضراوة القتال في الشهور المقبلة، ما سيؤدي إلى مزيد من سفك الدماء، وخراب أوسع في الممتلكات والمصانع والمرافق الحيوية، وتدمير للاقتصاد، ونزوح للسوريين بأعداد كبيرة إلى دول الجوار، خصوصاً إلى لبنان، الذي أبقى حدوده مفتوحة أمامهم بينما أغلقتها تركيا والأردن. ومعلوم أن لبنان بدأ يعاني من تزايد أعداد النازحين السوريين والفلسطينيين على الصعيدين الرسمي والشعبي، فالدولة أصبحت غير قادرة على تلبية متطلباتهم الأساسية. مما تقدم نجد أن الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية في لبنان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأوضاع في سورية، نتيجة انخراط القوى السياسية الرئيسة فيه بشكل أو بآخر في الأزمة السورية. * كاتب لبناني