رغم ضآلة حجم الرواية"الهوية الثالثة"للكاتب نزار دندش دار الفارابي، الا أنها تمتلك قدرة على جعل قارئها يشعر وكأنّه أمام مرجل يغلي بالأفكار والقضايا التي تفيض بها، حتى تكاد تُشكّل كلّ قضية فيها مادة لرواية قائمة بذاتها. يختار الكاتب أن يقوم بإطلالات سريعة على مواضيع مختلفة، عارضاً مواقفه منها على لسان أبطال عمله الذين تدور حولهم أحداث الرواية. ينطلق الكاتب من قضية الزواج المختلط، ليُطلّ على إشكاليات هذا العقد، بما يحمله من ايجابيات وسلبيات، خصوصاً في ما يتعلق باختلاف التقاليد والأعراف والتباين بين الأفكار، الذي قد يؤدّي، بعد تبخّر الوعود بين الطرفين، إلى الانفصال الذي لا خاسر فيه سوى الأولاد. ومن ثمّ يغوص في الحرب الأهلية اللبنانية الحاضرة بوجودها وغيابها، وبما تركته من آثار على أهلها تشريداً ونفياً ودماراً نفسياً ومادياً... أمّا القضية التي يُسلّط الكاتب الضوء عليها فهي الحالة النفسية للكائن اللبناني الفخور بانتمائه، والذي يأبى أن يترك وطنه ليجد نفسه أخيراً محاصراً بالمشاكل التي تتهافت عليه كضربات الزمن. وبعد سقوط أقنعة الزيف والكذب عن وجوه الآخرين، يرى نفسه وحيداً يتخبط في أوحال الوجود، لا يستطيع الانغماس في أتربة الواقع ولا يقدر على الهرب، فيظلّ يبحث عن هوية جديدة بعيداً من ظلمات ذوي القربى وظلمهم الأشد مضاضة من السيف ونصل السكين. هذه هي القضية التي تشكّل جوهر النص، وهي قدر اللبناني، خصوصاً المنتمي إلى جيل الحرب. ولأنّ الكاتب يستمد من واقعه موضوعات كتابته، ويتّكئ على المرئي والمحسوس، ويتعكّز على ما هو كائن لعلّه يرسم ما يمكن أن يكون، نجده يضع أمام المتلقي مسألة أخرى تفرض نفسها أيضاً لتصير وجوداً بالفعل، ويصبح الانتماء اليها عقيدة شبه ايديولوجية، وهي مسألة الاتصالات العصرية عبر مواقع التواصل الإجتماعي مثل الفايسبوك وغيره من المواقع التي أوجدت عالماً افتراضياً آخر تسكنه شخوص لها صلاتها وآرائها وإنفعالاتها... ويكشف الكاتب هنا عن علاقة الجيل القديم مع هذا العالم ودهشتهم إزاء ما يسمعونه عنه من كلام أبنائهم ومحيطهم من الجيل الجديد. وتأتي تجربة زيّان في النصّ لتُضيء هذا الجانب من حقيقة تعاطي الجيل المخضرم مع هذه التكنولوجية العصرية:"من يملك عنوان بريد إلكتروني يستطيع فتح حساب في الفايسبوك، هذا ما كان يسمعه زيّان من كلّ المتعاطين مع شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا ما قاله له ولداه طارق ونور، لذلك لم يكن من الصعب عليه فتح حساب من هذا النوع". يوظّف الكاتب معظم تقنيات العمل الروائي في عرضه لهذه القضايا المتنوعة في شكلها ومضمونها. لكنّ اللافت هو اعتماده في شكل أوسع على تقنيّة الراوي وتقنية رسم الشخصيات. فالراوي في النص هو عبارة عن مجموعة رواة، اذ يستلم الحكي راو مشاهد ينتمي الى الوصف الخارجي، وفي الوقت نفسه يمنح الكاتب شخصياته حرية التعبير والتبئير لتحدثنا عن بعض جوانب حياتها وعلى بعض مكنوناتها، فتستحيل أصواتاً سردية داخلية وذاتية. وهي نقطة تُحسب للكاتب الذي منح شخصياته حرية التعبير عن نفسها كما تهوى، وبالمستويات التي تختارها هي. فالشخصيات، لم يكن دورها الفاعل يتجلّى عبر أسمائها أو أشكالها، إنما عبر أفعالها وحركتها على رقعة الأحداث، اذ تلفتنا حوافزها التي تحركها من أجل تحقيق رغباتها. هكذا نراها تنتج عوامل غالباً ما كانت مساعدة في تحقيق الرغبات. فلا نعثر في الرواية على شخصية سيئة وإنما على شخصيات تفاعلت في ما بينها، وكأنّ الكاتب يريد القول إنّ علاقة البشر في ما بينهم صافية وواضحة وتقوم على المشاركة والتعاون، لولا تلك الشريحة التي تعكّر أجواء الناس بكذبها وزيفها وريائها.