يحدث أن تستيقظ في الثالثة فجراً على صوت يستغيث ويقول:"لم يبق لنا سوى الدعاء ... الطائرات تقصف وإن متّ تذكري أنني أحبك". تلملم دموعها وقلمين: حبر وأحمر شفاه. تصل الى شارع خال من أي لون، فالثلج الباريسي يغطي الأخضر واليابس. يسير بها القطار بصعوبة والركاب يتململون من شقائهم -على ما يعتقدون- فيعطسون ويسعلون لكن وجوههم تبقى خالية من أي تعبير. تماماً كالثلج في الخارج. في الرابعة فجراً تدخل غرفة الماكياج، يُخفون احمرار العينين الباكيتين، ويلبسونها قناعا انيقاً. تدخل قاعة التحرير وتغوص بين أخبار الوكالات والمراسلين، تبحث عن الخبر الذي أيقظها فجراً فلا تجد له أثراً. لا أثر إذاً لا خبر. إلا اذا لجأت الى ما بات يسمى بالناشط - الصحافي الموجود في المكان عينه ولكن الإتصالات منقطعة مع سورية. ربما هذا ما يفسر غياب الخبر عن الوكالات، إضافة إلى تجنب المراسلين المحترفين المناطق الشديدة الخطورة. تلجأ إلى الجدران الالكترونية، فالمجلس السمعي البصري أعلى سلطة إعلامية بغياب وزارة إعلام أقر الجدران وسيلةً للتواصل, لكنه نصح بالتعامل مع ما يُكتب عليها باعتدال وفطنة ويقظة. على الجدران، هناك من تلقف الخبر مثلها، لكن لا تفاصيل. تنهي كتابة نشرتها، رئيس التحرير أعطى الضوء الاخضر لكنها لا تزال بانتظار الخبر الناقص... خبرها. في كل نشرة أخبار، هناك خبر ناقص. هذا أكيد. فهناك أماكن لا صوت لها وهناك أخبار لا مكان لها في نشرة تلاحقها عقارب الساعة لتلتهم كلمة هنا وفكرة هناك. مباشرة على الهواء تُنقل النشرة، تستلّ القلمين أحمر الشفاه ليكتمل القناع، وقلمَ الحبر لتضع اللمسات الاخيرة على التشكيل اللغوي على بداية الأفعال المبنية للمجهول. وما أكثرها في السياسة! تلف على جدران الاصدقاء واحداً واحداً علها تجد بارقة أمل. تحاول قراءة المستقبل مع المحللين والخبراء كمن يحاول كشف المستور من المستقبل في فنجان قهوة أو في خطوط الكف... كف وطن كامل. كمن يسترق النظر الى السطر الأخير في الصفحة الأخيرة لكتاب يطالعه. أو من يشاهد خلسة عن نفسه، آخر حلقة من مسلسله المفضل الطويل جداً، ويتلذذ بعدها في متابعة تفاصيل كل حلقة مطمئناً على مصير البطل. ولكن ماذا إن لم يكن هناك بطل؟ شعب بطل بأكمله ينتظر وصول بطل أسطوري. بطل سلمي يستل وردة يوجهها نحو طائرة الميغ فتسقط من دون أن تنفجر وينضم الطيار طواعية الى الموجة البيضاء. لا أبيض في نشراتنا سوى الجزء من الورقة الذي لم تلوثه الكتابة. وكأن الخبر يلوث الصفحة العذراء. وكأن الخبر الذي لا يلوث الصفحة لا يستحق النشر فهو"لا خبر". لا تسمح لنفسها بالعبور فالخطورة كبيرة. لا تسمح لنفسها بالتعبير، فعملها يفترض أن تضع قصتها الشخصية جانباً. يصل الخبر على الوكالات، بات من الممكن ذكره في النشرة. عادت الإتصالات. على الهواء، يخبرها"الشاهد"عن مأساة وقعت، عن أحباب قُتلوا وأسر تشردت، عن جيل كامل حُرم من الصحة والتعليم، عن رموز دمرت من دون ان تتبلور أخرى. تستغل فرصة غياب وجهها عن الكاميرا لتتأكد من أن القناع لم يتزحزح. تنتهي النشرة، ثم تنتهي الفترة الاخبارية، تذهب الى زاوية بعيدة تمسح القناع عن وجهها وتسأل نفسها إن كانت هي لا تزال على قيد الحياة. * إعلامية ومقدمة أخبار في"فرانس - 24"