الخميس 28 أيلول سبتمبر. في باريس. وأنا أمرق إلى شارع سيباستيان بوتان من زاوية جادّة سان جيرمان دي بري تحت الظلال الخريفية الناعمة لأشجار الدلب والزّان العملاقة والظلال دانتيلا فوق الأرض. تخاريم من نور الشمس ترتعش مع اهتزاز الأشجار في الرّيح... زجاج الفترينات المضيء وحركة المارة النّشطة يعيدان إلي مرّة أخرى ذاك الإحساس القديم بأنّني في قلب أوروبا العجوز... وأنّني في الآن داخل شيء يظل مجهولاً... فالمشهد المادي الماثل يخفي عالماً يظل بالنسبة إليّ مغلقاً… تلك التجربة التي خاضها الغرب في القرون الخمسة الأخيرة والتي دشنها عصر النهضة أو ما اصطلح عليه بالحركة البشرية... وهي الحقبة التي انفصل فيها الغرب عن الثقافات الأخرى والتي جعلت منه ظاهرة تحدّ للثقافات والحضارات الأخرى. إنّه التحدّي الغربي كما يسميه أندري مالرو. كشك الجرائد الباريسي الزجاجي بأضلاعه المعدنيّة كله صور وبوستيرات لأغلفة المجلات... حمامتان تدرجان أمام قدميك على الرّصيف الرمادي... وأنت تعبر من أمام مكتبة زبد الصّفحات l"ژcume des pages يواجهك ملصق به بورتريه الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه منعكساً خلال باب المكتبة الزجاجي... ريلكه شابّاً بشاربيه الشقراوين الرفيعين كالزّغب، والأنف الممتد الدقيق وتلك النظرة الثابتة الى شيء في البعيد. ريلكه بشحوبه الرّومانسي. الداندي الأنيق. الشاعر القلق. هذه هي باريس الأبدية بأرصفة المقاهي وكراسيها السعف الصفراء وستاراتها المخطّطة الألوان. باريس بشوارعها التي تموج بالبشر من كلّ الأجناس والملل وبحركة السيارات بحمامها وأشجارها العملاقة بسقوف الأردواز... باريس بجسورها الحديديّة وظلال ساحاتها الأنثويّة النّاعمة. بقصورها التاريخية الشاهدة على ذلك العصر البطولي عندما امتدت إمبراطوريتها من اسبانيا وإيطاليا حتى هولندا... باريس بحدائقها الصغيرة وتماثيلها، بكنائسها الرومانية وكاتدرائياتها الغوطيّة ذات الأبراج السّامقة باريس... باريس بمحطات المترو آر ديكو وآر نوفو ودهاليز الكاتاكومب، تلك المقابر الكائنة تحت الأرض حيث يجاور الموتى شبكة الحديد تحت الأرض... آلاف الجماجم لآلاف الحيوات. باريس بباعة الكتب القديمة على السين حيث كان يمضي توفيق الحكيم الساعات الطويلة... هناك كتب مسرحية شهرزاد و"عصفور من الشرق"وتلك الرسائل الجميلة إلى صديقه أندري. قبلها بقليل كان جبران قد مرّ بباريس وقضى سنة مع صديقه النحات يوسف الحويك الذي روى تفاصيل تلك الأيام... وهناك التقى وليم بطلر ييتس: "كان العرب أيامها واقعين تحت سحر الحداثة الغربية ممثلة في الانجاز الفرنسي النموذجي: حركة التنوير والثورة الفرنسية. أو ما يسمّيه أندريه مالرو التحدّي الغربي Le dژfit occidental، التحدّي الذي واجه الثقافات الأخرى في القارات الخمس... أحس العرب في القرن التاسع عشر وبنوع من البدائية أنّ النموذج الغربي قابل للاستنساخ… ذاك الاحساس الكاذب بالتحديث الذي اعتراهم والباهظ الثمن والذي ما زال العرب يدفعون فواتيره إلى اليوم. وما حركات الانكفاء والعود إلى الماضي التي نشهدها اليوم من أصوليات مختلفة سوى ردّ فعل لذاك الاندفاع التغريبي الزائف. لقد اندفع ذلك الجيل الذي مثّله رافع الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين باشا التونسي إلى النقل... اعتقدوا أن فرنسا صيدلية تحوي كلّ الأدواء لمعالجة كلّ أمراضهم التاريخية. اليوم تجدهم ممزقين بين حداثة تقوم على عملية نسخ ولصق وبين عود الى الماضي يقوم هو أيضاً على عملية نسخ ولصق، وفي الحالتين لا استبطان ولا ابداع وإنما مجرد نسخ بدائي". ... تعودني باريس بتلك الريح التي تدفع زوارقها على صفحة نهر السين منذ قرون... تلك الريح التي تمرّ في لوحات الرسامين الانطباعيين. وأنت تعايش تلك اللحظات باهتزاز غامر. كلّ شيء كان يضيء ويشتعل: أصص الجيرانيوم في نوافذ هنري ماتيس بمشابكها الحديدية والدانتيلا التي تغطي مربعات زجاج النوافذ... باريس الفلاسفة وبما لا أدري من الأسرار الأخرى التي تتخلل فضاءات خريفها الأبدي وتتغلغل في أعماقك. في بعض الصباحات كنت أصادف صديقي أنطوان في قهوة روستان المواجهة لحديقة لوكسمبورغ غارقاً في القراءة. من وراء زجاج المقهى، يبدو بهاء أشجار الحديقة كألوان متحوّلة من البنّي إلى البرتقالي الأصفر، حديقة لوكسمبورغ بطيورها الغامضة وبذكرى ريلكه الذي ما زال طيفه يراودها في الليالي المقمرة بمعطفه الأسود الطويل ماسكاً وردته الأبدية أمام عينيه. إنّه الخريف في باريس... الأشجار التي تزداد دكنة بزخات المطر المفاجئة للناس في حديقة لوكسمبورغ... تحدث حركة التجاء تحت الأشجار. آخرون يغادرون في أسراب هاربين وقريباً من كشك الموسيقى حيث كنت تجلس لساعات طويلة وكتابك في يدك ولكنّك شارد تتفرّج على حركة البشر... ثمة على مقربة منك شابة عشرينية تقوم بحركات شبيهة بحركات رقص الباليه ولكن ببزّة رياضيّة، وبعد إمعان بدا أنها تمارس التاي تشي شوان تلك التمارين شبه الطقوسية التي يعيد بها الياباني صفاء الروح واطمئنانها، فالشباب ولمواجهة ذاك الضيق النفسي الذي جاءت به الحياة الحديثة تراهم لاجئين إلى الفلسفات الآسيوية لإسناد الذات المرهقة... بعدما غادروا الكنيسة التي كانت تسند آباءهم على مرّ العصور. عند تقاطع شارعي بونابرت وسان جيرمان دي بري، تجمّع الرياح أوراق شجر الدلب في زوايا الأرصفة وعتبات الأبواب، وهناك ضوء من خلال السحب المتقطّعة أصفر برتقالي كما لو كان الغروب يغطي برج كاتدرائيّة سان جيرمان دي بري حيث يُعزف في ذاك المساء برنامج لموزارت... في تلك اللحظة يقف جورج شحادة يتأمل شارع الآباء القدّيسين من نافذة شقّته في الطابق الأوّل من البناية التي تحاذي مجلة ال"مغازين ليترير"، قلت لا بدّ من أنّ ليونار يعد الآن القهوة تحت النور الأبيض في مكتبه في الدائرة 11 والذي وعدته بالزيارة ولكنّني أخذت كالسائر في نومه على غير هدى... في الشوارع المحيطة بجامعة السوربون حيث تظهر في فترينات المكتبات عناوين كتب الموسم، ترجمة جديدة لأعمال الشاعر الألماني غوتفريد بان، ترجمة جديدة لكتاب غروداك العالم النفساني معاصر فرويد الذي اعتمده لورنس داريل في تحليلاته النفسية لشخصيات روايته الرباعية الاسكندرانية... تعود نصوصه هو أيضاً الى الظّهور. فغروداك مزيج من عالم وفنان وهو يوصّف نفسه بأنّه محلل نفساني في حالة متوحشة... هناك أيضاً الكراس الرمادي للودفيك فيتكنشتاين... نصوص منسية لسورين كيكجارد... ترجمات جون بوفري لهايدغر. قرب النافورة في ساحة أندريه مالرو، ألمح توفيق الحكيم بالبيريه قرب مسرح الكوميدي فرانسيز بوجهه الأسمر وعينيه الحالمتين يقف على الرصيف ماسكاً قفص الكناري الذي ظهر في رواية"عصفور من الشرق"... ريح رمادية زرقاء في الحي اللاّتيني تهزّ الأشجار... تبعث في الأجواء شيئاً من الكآبة الشاعرية. لعلها الريح التي هبّت على بول فيرلين فغنّى آهاته الطويلة وموسيقى الخريف الشبيهة في رتابتها بموسيقى ألف كمان... لكنّ ذلك عصر مضى وتوفيق الحكيم استثناء لن يتكرر وهو الوحيد من بين مثقفي مصر الذي عاش تجربة الشارع الباريسي. عاش خارج جدران الجامعات التي تلقن المعارف والثقافة الرسمية... الحركة في شوارع الحي اللاّتيني تشي بقدوم الطلاب الجدد المتوافدين من كلّ أصقاع العالم: وجوه سمراء بدأت تغزو الشوارع وأرصفة المقاهي، وجوه لا تدري أهي قادمة من المكسيك أم من شبه القارّة الهنديّة أم لعلّها من بلاد العرب؟... تذهب إلى مقهى السوربون، هناك في الركن يجلس عبدالقادر أمام قهوته التي لا تنتهي وأوراقه المفردة على الطاولة زرقاء فاتحة وبرتقالية وبيضاء، صور منزوعة من كتب تعليم الميكانيكا القديمة، صور لأجهزة قياس واصطرلابات نحاسية ومناظير لقياس النجوم. صور ميكانيكا القرن الثامن عشر يوظفها كمادّة لتنفيذ كولاج سوريالي يزيّن بها كراريسه الشعرية ومجلته الرّغبة الإباحية ونصوصه النثرية الهجائيّة الأخرى... وليس بعيداً يجلس أندريه يبيع الكتب التي يسرقها من مكتبات الحيّ. هكذا هو أندريه سحنة ريفية فرنسية على اصفرار، بمعطفه الترانشكوت المطري الرمادي المفتوح على الدّوام وسيجارة الغلواز التي لا تفارق شفتيه منسيّة هناك حتى يسقط رمادها على صدره أو على الطاولة تماماً مثل جاك بريفير. يبيع الكتب المسروقة للطلبة بأسعار بخسة جداً... شخصية مزيج من فوضوية وتروتسكيّة على غضب متأصّل في نفسيّة الفرنسي من أيام الثورة... أندريه نموذج المثقف الفرنسي الصعلوك المتمرّد صاحب المطالب والعصيّ على التّدجين الثقافي والمجتمعي... رجل ذكي استفزازي بسخرية فيه شيء من نكهة باريس كما عرفها روائيو الجيل الضائع الأميركي. لقد عاصر الحكيم وطه حسين ومحمود المسعدي هؤلاء الكتاب، ولكن باستثناء الحكيم الذي قرأ جويس لم يتأثر المثقفون العرب بتلك الحركات التي زلزلت الوعي الغربي وكسرت أنماط التفكير والكتابة كما كانت في القرن التاسع عشر، وظلّ طه حسين داخل أسوار الجامعة التي لم تعترف في ذلك الوقت، لا بنيتشه ولا بالحركات التي كانت تموج بها باريس من دادائيّة وسوريالية ومستقبلية... لم ينزل طه حسين إلى تلك الشوارع التي تسكع فيها رامبو وفرلين وهنري ميللر وأنتونان أرتو من بعده. ظل طه حسين ديكارتياً في حين ثارت كلّ هذه الحركات على تلك العقلانية الديكارتية المفرطة.