مضت ثلاث سنوات على انطلاق"الربيع العربي"في كلٍّ من مصر وتونس واليمن من دون أن يلمس المواطن العادي أيّ تحسّن في أوضاعه المعيشية نتيجة تعثّر عملية الانتقال السياسي في البلدان الثلاثة. وعلى عكس تطلّعات مواطني هذه البلدان، ارتفعت مستويات البطالة، وازدادت معدلات الفقر والهشاشة، وتدهورت الأوضاع الأمنية، ولم تتحسّن مؤشرات الفساد التي كانت عاملاً رئيساً لاندلاع الانتفاضات العربية. ولم يتمكّن الاقتصاد في أيٍّ من البلدان الثلاثة خلال 2013 من استعادة زخمه، وسجّلت هذه البلدان نمواً يتراوح بين اثنين وثلاثة في المئة، وهذه نسبة تُعَدّ ضعيفة لا ترقى إلى مستويات نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي عرفته هذه البلدان في فترة ما قبل 2011، وهي بالتأكيد غير كافية لاستحداث ما يكفي من فرص التوظيف وامتصاص الأعداد الكبيرة من الشباب الوافدين إلى سوق العمل. من جهة أخرى، تفاقم عجز الموازنات الحكومية، ويُرجَّح أن يستقر في حدود سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في تونس واليمن، في مقابل 11 في المئة في مصر. وسجّل عجز حساب المبادلات الجارية تدهوراً إضافياً، خصوصاً في تونس حيث استقر في حدود تسعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في ظل الارتفاع المستمر لأسعار النفط، وتباطؤ التعافي في القطاع السياحي، وتقلّص الطلب الخارجي للبلدان الأوروبية الشريكة التي يعيش جلّها في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة. وفي ظل غياب أية أدوات مناسبة لتمويل فترات الانتقال السياسي، توجّهت البلدان الثلاثة إلى صندوق النقد الدولي بحثاً عن حلٍّ لأزمتها المالية. ومع أن الاقتراض من الصندوق يتميّز بكلفته المالية المنخفضة مقارنةً بمصادر التمويل البديلة، وقدرته على رفع منسوب الثقة لدى المستثمرين، وتحسين التصنيف السيادي للبلد، إلا أن مقاربة هذه المؤسسة القائمة على هاجس الحفاظ على التوازنات الاقتصادية بالاعتماد على السياسات التقشفية، لا تتماشى مع خصوصيات مراحل الانتقال السياسي التي تتّسم عادة بتراجع النشاط الاقتصادي وانعدام الاستقرار الأمني. في مصر، انخرطت الحكومة قبل أكثر من سنتين في مفاوضات مع الصندوق على قرض بقيمة 4.8 بليون دولار لإعادة بعض التوازن لحساباتها الداخلية والخارجية. وأُجِّلَت الموافقة على منح القرض مرات بفعل التوترات السياسية من جهة، وتشكيك المؤسسة المالية الدولية في قدرة الحكومة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من جهة أخرى. وتمكّنت الحكومة الموقتة الحالية من الاستغناء عن قرض صندوق النقد بعد حصولها على إعانات خليجية تجاوز مبلغها الإجمالي 12 بليون دولار. وبفضل هذه الإعانات أطلقت الحكومة المصرية حزمة أولى لتنشيط الاقتصاد بقيمة 4.3 بليون دولار عبر استثمارات في البنية التحتية التي عادة ما تتميّز بقدرتها على إنعاش قطاعات متعددة في الاقتصاد، وتوليد أعداد كبيرة من فرص التوظيف، كما قررت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه 174 دولاراً بدءاً من كانون الثاني يناير المقبل بهدف دعم الطلب الداخلي، خصوصاً أن فئات الأجور المنخفضة تخصّص نسبة عالية من دخلها لاقتناء السلع والخدمات المحلية. وتستعد الحكومة لإطلاق حزمة ثانية خلال الأشهر القليلة المقبلة. ولا يزال اليمن يسعى إلى الحصول على قرض بمبلغ 550 مليون دولار من صندوق النقد الدولي في مطلع العام المقبل، في حين استفاد من المساعدات الخليجية بمبالغ أقل بكثير مقارنةً بمصر. ووُجِّهَت المساعدات أساساً نحو الإنفاق الجاري والمساعدة الإنسانية العاجلة من دون أن يكون لها أي تأثير ملموس على الاقتصاد. ومع أن صندوق النقد الدولي منح تونس خلال حزيران يونيو خطاً ائتمانياً بقيمة 1.75 بليون دولار تسلّمت أول قسط منه بقيمة 150 مليون دولار، إلا أن الصندوق فضّل عدم الإفراج عن الأقساط التي كانت مقررة منتصف أيلول سبتمبر ومنتصف كانون الأول ديسمبر 2013. ويبدو أن ضبابية الوضع السياسي وتعثّر الحوار الوطني أثّرا سلباً في ثقة المؤسسة الدولية في قدرة الحكومة على السير قدماً في الإصلاحات التي التزمت بتنفيذها. وباقتراب نهاية العام الحالي، يبدو بصيص من الأمل لجهة تجاوز حال التعثّر السياسي، والانتقال إلى وضع يسمح بالانكباب جدّياً على القضايا الاقتصادية التي تؤرق بال المواطنين، خصوصاً الفئات المعوزة منهم. ويتوقَّع أن تشهد هذه البلدان انتعاشاً مبدئياً في 2014، على رغم تباين درجة صعوبة الوضع بين البلدان. ويُنتظر أن يجرى الاستفتاء على الدستور الجديد في مصر في منتصف كانون الثاني المقبل كخطوة أولى نحو تحقيق الاستقرار السياسي والأمني الضروري لإعادة الثقة للمستثمرين، وتحسين وتيرة النمو الاقتصادي. كما يبدو أن تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة برئاسة مهدي جمعة، والذي توصّلت إليه أطراف الحوار الوطني، سيُمكِّن تونس من الخروج من حال الركود السياسي، وتجاوز الغموض الاقتصادي الذي ألقى بظلاله على البلاد خلال السنة الحالية، في انتظار الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، الذي لا يزال في طور الإعداد. وتعمل القوى اليمنية المشارِكة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل جاهدة بهدف الوصول إلى قرارات توافقية تساهم في تحقيق الأمن والاستقرار، وتخفّف من منسوب الاحتقان الاجتماعي. ويتعيّن على الحكومات في الدول الثلاث أن تسعى من أجل تحقيق طموح سكانها في الأمن والاستقرار، وتوفير الخدمات الأساسية، وإرساء البيئة المناسبة لجذب الاستثمار الداخلي والخارجي الضروري لتوليد فرص التوظيف اللائقة. ويقتضي دور الحكومات في المرحلة المقبلة القيام بإصلاحات بنيوية في نظامها الضريبي، ومنظومة إنفاقها العام لجهة تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية، واستهداف الفئات المعوزة بالمساعدة وشبكات الأمان الاجتماعي حتى يشعر المواطن بأن للانتقال السياسي عائداً إيجابياً على حياته اليومية.