منذ وصول حزب"العدالة والتنمية"إلى الحكم في تركيا وهو يحاول إقناع أوروبا بأن كونه إسلامياً لا يمنع أنقرة من أن تكون عضواً فاعلاً في الاتحاد الأوروبي. سال حبر كثير يروّج عدم تعارض الديموقراطية مع الإسلام. حتى أن الأميركيين ضغطوا على الاتحاد للنظر في الأمر، خصوصاً بعدما تفاهمت واشنطن مع"الإخوان"، بوساطة من رجب طيب أردوغان شخصياً، على خطوط عامة لسياساتهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكانت أنقرة تسعى إلى أن تكون القاطرة التي تلتحق بها دول إسلامية كي تدخل جنة الاتحاد من موقع قوة، باعتبارها ممثلة للمسلمين. فسعت إلى الانفتاح على محيطها من أذربيجان إلى دمشق، مروراً بأفغانستان وباكستان، ومن إندونيسيا إلى الخليج. لكنها اصطدمت بالتاريخ والجغرافيا: بالتاريخ لأن أردوغان، ووزير خارجيته داود أوغلو، انطلقا في انفتاحهما من تجديد العثمانية. وبالجغرافيا لأنه لم يتنبه إلى الاختلاف بين الدول المجاورة، وإلى أن الدين، أي دين، يتموضع في الواقع الاجتماعي لكل دولة ومنطقة، على رغم المنطلقات الواحدة للعقيدة. من هنا كانت المذاهب والشيع والاختلاف في التفسير والاجتهاد، حتى داخل تركيا ذاتها، حيث لم يكن يجمع شتات الأعراق والطوائف غير علمانية أتاتورك. بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفاً منذ سيطرة"الإخوان"على الحكم، قبل 12 عاماً، إذ بدأت الأقليات، بما تختزنه في ذاكرتها، تشعر بالخوف من"السلطان"الجديد الذي أقال عدداً كبيراً من الضباط في قيادة الجيش بسبب انتماءاتهم المذهبية، بحجة التخطيط لانقلاب ضده. وبدلاً من أن تؤدي هذه السياسة إلى تحالف بين الدول الإسلامية يغني أنقرة عن التوجه إلى أوروبا، أو يتيح لها التفاوض مع الاتحاد من موقع قوة، أفضت إلى خلافات عميقة بين"السلطنة"ومحيطها: خلافات مع العراق ومصر، ومشاركة فعالة في ضرب ليبيا وتخريبها، وتورط في تفاصيل الحرب السورية، على أمل توسيع هيمنتها في بلاد الشام، بالتفاهم مع بروكسيلوواشنطن، وإسرائيل بطبيعة الحال. هذه الأخطاء السياسية الإستراتيجية عوضتها أنقرة باتفاق مع الاتحاد الأوروبي يقضي بالسماح لمواطنيها بدخول دول الاتحاد من دون تأشيرة، مقابل موافقتها على إعادة المهاجرين غير الشرعيين المنطلقين من أراضيها إليها، على أن يطبق الاتفاق بعد ثلاث سنوات. أحمد داود أوغلو اعتبر الاتفاق"تاريخياً"، وخطوة متقدمة في اتجاه الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. خلال هذه السنوات ستخضع أنقرة لامتحانات كثيرة، منها على سبيل المثال علاقتها بالأكراد، ومسألة الحريات وحقوق الإنسان، فضلاً عن توثيق تحالفها مع إسرائيل. فإذا اجتازت الامتحان تبدأ المفاوضات لقبولها عضواً في هذا النادي، وإلا ستبقى خارجه وتكتفي بعضوية الحلف الأطلسي وتنفيذ سياساته العدوانية في الشرق الأوسط وخارجه، إذا دعت الحاجة. والأهم أن تبقى تركيا سداً يمنع روسيا من مد نفوذها إلى المنطقة. هكذا كانت أيام الاتحاد السوفياتي عندما تصدت، وهي العلمانية، للإلحاد الشيوعي. وهكذا هي الآن في أيام الأنظمة المؤمنة التي تحاكي السلطنة. أوروبا في حاجة إلى عضلات تركيا وليست في حاجة إلى روحها.