على رغم الفجوة السياسية الواسعة التي باتت تفصل بين تحالف دعم الشرعية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين وبين القوى العلمانية والثورية المتحالفة مع الجيش، هناك وحدة كامنة خلف هذا التناقض تتمثل في التصور السياسي الحاكم لكلا المعسكرين، وكذلك في حزمة الآليات والمفاهيم التي يتعاطيان بها مع الواقع السياسي المصري، سواء في مرحلة حكم مرسي أو مرحلة ما بعد 30 حزيران يونيو. فهذه المرحلة فرزت في مجملها ما تشهده الساحة السياسية المصرية من ممارسات قمعية وتوجهات سياسية وإعلامية فاشية واقصائية من جانب السلطة رد عليها الإسلاميون بأحداث عنف إرهابي ودموي ذات طابع طائفي عبرت عن نفسها أخيراً بحادث إطلاق الرصاص الذي استهدف مواطنين أقباطاً، وراح ضحيته 4 قتلى و17 جريحاً. هناك ثلاثة قواسم مشتركة وأساسية جمعت رؤى وآليات ومفاهيم كلا المعسكرين، أولها الفشل الذريع في تصنيف النظام السياسي الذي كان قائماً خلال حكم الرئيس المعزول محمد مرسي أو الذي تشكل على أنقاض ذلك الحكم بعد انتفاضة 30 حزيران. فالخطيئة الأساسية المشتركة بين القوى الإسلامية التي هيمنت على النظام في عهد مرسي وبين القوى التي انقلبت عليه وأسست لنظام جديد عقب انتفاضة 30 حزيران هو تصنيفهما لكلا النظامين على أنهما من النظم الديموقراطية العالية القدرة، انطلاقاً من وجهة نظر تغلّب ما هو ذاتي وأيديولوجي على ما هو موضوعي وتأسيسي. وهذا على رغم أن الوضع السياسي في مجمله لا يعكس تلك الوضعية الاستاتيكية الثابتة للنظام أو طابعه الديموقراطي. فالتحول والتقلب السياسي العنيف والعصف كذلك بمجمل المبادئ الديموقراطية في عهد مرسي وبعد انتفاضة 30 حزيران تشي بأننا في صدد عملية انتقال دراماتيكية من نظام ديموقراطي ضعيف القدرة إلى نظام غير ديموقراطي فعال. وخطورة تلك الصورة المتوهمة للديموقراطية من جانب الطرفين تكمن في أنها قد تنقل النظام السياسي المصري في ظل تلك السيولة السياسية العالية والعنف المتبادل بين الطرفين باتجاه نظام غير ديموقراطي ذي قدرة ضعيفة، وهو ما يضع البلاد على أعتاب الحرب الأهلية بكل أسف إذا ما تصاعدت واستمرت وتيرة هذا العنف الطائفي والجهادي، خصوصاً في ظل ارتكاب هذين المعسكرين المتصارعين خطيئة سياسية أخرى تمثل القاسم المشترك الثاني بينهما، ألا وهي الابتزاز السياسي الواسع النطاق للحسّ الثوري والديموقراطي لدى الجماهير لتدشين نظام شمولي. وتتجلى أبرز علامات هذا الابتزاز في الدور الرديء الذي تلعبه عملية الترويج السياسي والإعلامي المتبادل لاحتمال قيام ثورات عدة خلال فترة زمنية متقاربة. فانتفاضة 30 حزيران جرى الترويج لها باعتبارها ثورة مكتملة الأركان اندلعت لخلع الإخوان من السلطة ومن معادلة التاريخ المصري بالكامل بغية تأسيس نظام مدني ديموقراطي. كما أن التحرك الاحتجاجي من جانب جماعة الإخوان وحلفائها من الإسلاميين بات يُنظر إليه باعتباره ثورة شعبية ديموقراطية تسعى إلى إسقاط الحكم العسكري واستعادة الكيانات المنتخبة والرئيس المنتخب. إلا أن الجرعة الشمولية العالية في عهد محمد مرسي والتي انطوت على ابتزاز ثوري واضح ومفضوح تجلى في إعلان 22 تشرين الثاني نوفمبر الديكتاتوري الذي مثل المسمار الأول في نعش نظامه، تتماهى مع الجرعة الشمولية العسكرية التي تسعى الآن إلى بلورة نموذج المستبد الثوري العادل ممثلاً بالفريق عبدالفتاح السيسي بما ينسف في النهاية كل فرصة محتملة لبناء نظام ديموقراطي حقيقي سواء من جانب قوى 30 حزيران، إذا ما استمرت في السلطة، أو من جانب الإخوان وحلفائهم إذا ما نجحوا في استعادة تلك السلطة. بذلك انفتح الأفق السياسي والاجتماعي واسعاً أمام احتمالي الديكتاتورية والعنف الأهلي المروع، خصوصاً أن مفهومي الشمولية والثورة ينطويان على طابع أسطوري يكرس آليتي القمع السلطوي والصدام الدموي العنيف كآليتين حاكمتين لمسار تلك الأزمة. وهناك أيضاً قاسم مشترك بين المعسكرين هو محاولتهما الحثيثة أدلجة الدين. ولعل أبرز مثال يدلل على ذلك هو مفهوم الخوارج الذي وصف به مفتي مصر السابق علي جمعة أنصار الإخوان في إطار تبريره ما تقوم به الشرطة من قتل للمتظاهرين الإسلاميين. وهو نهج الإخوان أيضاً في التعامل مع السلطة الانتقالية وقيادات الجيش والأمن، فهم في نظرهم الخارجون على الحاكم الشرعي، وبالتالي يجوز قتلهم. واللافت هنا أن السلطة الانتقالية الجديدة، على رغم طابعها العلماني المدني، سعت إلى توظيف الدين شأنها شأن خصومها الساعين إلى تأسيس سلطة دينية، وذلك بمثابة تشديد على الطابع العلماني لتلك السلطة الجديدة وليس العكس، وهو ما تؤكده التجارب التاريخية المتعلقة بعملية الانتقال من هيمنة الميتافيزيقا الدينية إلى هيمنة الأيديولوجيات الثورية. لذلك، فإن هذا التوظيف المزدوج للدين، يعني أن الجرعة الشمولية ستتنامى معمقة الصراع الإيديولوجي الإسلامي/العلماني ما بين السلطة الانتقالية والإخوان. فإجهاض تلك السلطة للتعددية السياسية وتدشينها سلطة أمر واقع لا تقبل النقد أو المناقشة سيُرد عليه من جانب الإخوان إما بفتاوى دموية مضادة أو بخطاب سياسي منغلق يزيد من عزلة الجماعة ويكرس طابعها الديني الديكتاتوري، ليتحول الصراع السياسي في مصر من صراع على الشرعية والديموقراطية إلى صراع يتمحور حول مدى قدرة الإخوان أو العسكر على التمدد، سواء بالعنف الاحتجاجي أو البطش السلطوي في فضاءات تلك الديكتاتورية الوليدة التي خرجت في مفارقة تاريخية من رحم الثورة الديموقراطية في 25 كانون الثاني يناير وموجتها الجديدة في 30 حزيران. * كاتب مصري