في الحالة العربية اليوم، لا تبدو الاحتدامات العامة والواسعة، ولا شراسة التصادم، من دون معنى، او انها بلا أبعاد قد تكون تاريخية، بحيث تستوجب اعادة قراءة السردية التاريخية العربية، الراهنة الحديثة منها، والبعيدة المتعلقة بتاريخ الاسلام وصعوده، وتراجعه المدوي، كمشروع، لا كعقيدة، منذ سقوط بغداد في 1258. وقد يخطئ كثيراً، من يقصد فصل الحاضر، او المجريات الراهنة، عن السيرورة الإجمالية، متوخياً افتعال زاوية نظر تقفز فوق الوقائع المتواترة، ما يفضي للوقوع في اخطاء التقدير، وقد يجلب كوارث لم يعد من المقبول الا يتم التنبه لها وتحاشيها. وحيث لا نزال تحت وطأة الحماسات، اي ما لا يتيح فرصة المحاجّة العقلانية، سيكون لمثل هذا الحديث وقع منفر، وسيكون مرفوضاً بداية، ولا سبيل في الحالة التي نعرفها عن طريقة اشتغال العقل العربي، الى تطلب تفهم عاجل، او لاتباع السبل الإقناعية العادية، الا اننا يمكن ان نقترح سردية من خارج المألوف، باعتبارها امراً اقرب الى الاسطوري، بغض النظر عن صوابيته، مقابل واقعيٍ لا يفسر بما هو، بل بما يسقط عليه من تصورات جاهزة، وإن تكن متكلسة. فما اثارته هزة ما يعرف ب"الربيع العربي"على المستوى الاستراتيجي، وبين اوساط وحكومات عربية نافذه ومؤثرة، ترافق مع حلم بتغيير المعادلات، على مستوى ليس عرضياً ضمن عناصر التوازن في العالم العربي. هو بوضوح بعد طائفي، مهما اتخذ على المستوى السياسي من تسميات. وربما بدا للبعض، وبالذات في حالة سورية، بؤرة او مجالاً لقلب الموازين التي احدثتها ايران، بعد احتلال العراق، وسحق دولته عام 2003. وعليه وبالحس الخاطئ والوهم، جرى وضع اقصى الإمكانات والطاقات، على المحور السوري، باعتبار ان انقلاب الاوضاع في هذا الموضع، أو تغير الحكم، سيقصم ظهر المشروع الايراني، ولن يتبقى من بعده سوى تفاصيل، منها"حزب الله"في لبنان، والشيعة في العراق. ومن يتحرى مصادر الزخم المذكور، يجدها معطيات مقبولة عقلياً، منها الاكثرية العددية، ومنها التعويل على القوى العظمى الاميركية والأوروبية، ومنها القناعة المطلقة بالأحقية. ولعل هذه بالفعل معطيات كافية، او مكتفية بذاتها، وصالحة لاعتماد مواقف وسياسات، ووضع الخطط المبالغة، التي لا تقبل الجدال او المناقشة. مقابل تصور كهذا، ثمة تصور مضمر يرى ان التسنن في العالم العربي الحديث لم يحقق على المستوى السياسي، سوى الهزائم والكوارث، وهو لم يحيي ابداً روح الحضارة الاسلامية في الراهن، وأن هذا التيار هو الذي توالت على يده الهزائم والحكم الاستبدادي، وصولاً الى هزيمة حزيران الكبرى، والذهاب الى القدس، فضلاً عن التردي الرهيب إجمالاً، في اوضاع العرب، قياساً بأمم العالم. ولا يتوقف هذا التصور عند هذا الحد، بل يذهب الى تبني سردية اخرى عن التاريخ، تقول إن صعود أو تمكن التسنن ترافق مع هزيمة العرب التاريخية، وتراجعهم، وخروج الحكم منهم، لمصلحة الأقوام المسلمة، التركية وغيرها. ومنذ الخليفة المتوكل، حين تكرس التسنن، لم تقم للعرب قائمة، وأصبحوا تابعين، وفقدوا من يومها الفعالية، او الدور الراجح، ليصبحوا محكومين من الامم الاخرى، غير العربية، وصولاً الى القرن العشرين. ما قد يعني ان التسنن على عكس ما يشاع، هو مذهب الأقوام المسلمة غير العربية، وليس مذهب العرب، وأن الاسلام العربي وثورته، مرّا عملياً بثلاث مراحل، هي: الفترة النبوية الراشدة، وفترة الملك العضوض، مع معاوية والامويين، ثم فترة خروج الحكم من يد العرب بانتصار الترك. وأما العصر الراهن، فقد وصلنا اليه وذكرنا اهم جوانبه البارزة، هذا علماً بأن المنطقة العربية من شمال افريقيا، وفي مقدمها مصر، الى البحرين، وأجزاء من الجزيرة العربية وعمان واليمن، لم تكن سنّية حين وقعت عاصمة الخلافة بغداد، تحت سطوة الاتراك، ايام المتوكل وبعده. غير ذلك، وهذه نقطة مهمة جداً وفاصلة، فإن العالم اليوم، لم يعد يخضع لهيمنة العالم الغربي ونفوذه، وهنالك حالياً مواطن نفوذ صاعدة، ميزتها الاخطر، مقارنة بالاتحاد السوفياتي السابق، انها تسير وفق الآلية التعاقبية للرأسمالية، مذكرة بسلسلة تعاقبات الرأسماليات في اوروبا، من الهولندية الى البرتغالية الى الاسبانية والفرنسية والانكليزية، ثم الاميركية. صحيح ان الرأسمالية الآسيوية الصاعدة تتميز بمكونات وآليات غير مطابقة للرأسمالية الغربية، وأنها تصعد بينما الواقع الانساني والحضاري ينتقل من الانتاج العضلي الى الانتاج العقلي... إلا ان هذه الميزة الاخيرة من شأنها ان تدلنا إلى التراجع المرجح للغرب الحالي، وهذا الجانب الذي يؤكد نفسه كل يوم، في واقع المنطقة، وبالذات في الحالة السورية، يكفي لجعل اي متبصر متأن وعقلاني يلمس ان الطرف الآخر يملك من جهته رؤيا لا تقل واقعية واحتمالية تبرر طلب الانتصار، عما يقابلها من تصورات، تبدو مبنية على بداهات موروثة ومتخيلة، لا على قراءة للوقائع المستجدة وحقائق العالم والمنطقة وتاريخها، بتجرد وحياد. في الحد الادنى، يقتضي الموقف اليوم، مع الاحتدام العنفي والتكفيري، والمشاريع المغالية الموحية بمأزق تاريخي، ان ينظر الى سيناريو آخر غير المتوهم السائد، اي الى احتمال وهذا ما بدأ يحدث قبول الغرب لإيران، وفشل محاولة اسقاط النظام السوري، وزيادة موقع روسيا والصين كجبهة عالمية صاعدة، وهو ما سيؤول حتماً الى تداعيات مؤلمة للطرف المراهن على العكس، والى هزيمة مؤكدة، تشمل قوى التكفير والعنف في سورية والعراق والمنطقة. وهذا المآل المحتمل، والذي لم يعد يفتقر الى الواقعية أخيراً، سيكون بالاحرى هزيمة تاريخية لتصور وانتماء بما قد يؤدي الى تراجعه التاريخي، ويفقده مبرراته والمزيد من مواقعه، مما قد يأتي بنتائج معاكسة للمتوقع. فحركة التشيّع في المنطقة، وإن توقفت او تراجعت، ربما تعود للانطلاق، وتزداد وتيرتها، مع احتمال حيازة معسكرها على شرعية مدعمة بالوقائع، ما يرفع صوتها نظرياً وإعلامياً ودعوياً. هذا اذا ما اعتمدنا زاوية النظر المذهبية في الحكم، وتمسكنا بمساراته ومؤثراته، الغالبة على الواقع العربي اليوم. ولن نذهب بتصوراتنا ابعد من هذا، لأننا لا نعرف تماماً، ما الذي ستكون عليه ردود الأفعال القريبة والبعيدة، مع ان الوضع بالإجمال والسياقات التي من شأنها ان تخدم منعة العالم العربي وتقدمه، ليست معدومة على الإطلاق. لكن مثل هذا الخيار، وبما انه يفترض ان يأتي على مقاس التحدي النوعي للحظة التاريخية الراهنة... يستوجب كلاماً آخر. * كاتب عراقي