حياة واحدة ونهاية واحدة، يعيشهما من يشبه كوماري من السريلانكيّين والفيليبينيّين والبنغاليّين. إنهم بشر مثلنا، يصارعون العبودية العصرية المفروضة بقوة المال، وتبدو بطلة كتاب"أنا كوماري من سريلانكا"دار الساقي لحازم صاغية، امرأة خارجة من بين ركام الأشقياء، وصارخة بجُمَل تخصّ العدالة، لا تقال سوى مرات قليلة في حياة الإنسان، كلمات تُنطق ضد الطغاة والنخّاسين والمستبدين، من ضعفاء لا أصوات لهم، ولا يُتوقّع عادة، أن يتكلموا، أو أن يعترضوا. كوماري المولودة عام 1971، في مايتلي القرية القريبة من مدينة كاندي، تنتمي إلى أحد عِرقَي سريلانكا، وهم التاميل، وينقسم كل من يعيش في سريلانكا من بوذيين وهندوس ومسلمين ومسيحيين، إلى سنهال وتاميل"ولا يجمعها عرقها مع"نمور التاميل"في شمال بلادها، فهي من تاميل الوسط، الذين لم يقاتلوا ضد السنهاليين المسيطرين على الحكومة في كولومبو، وهم من ثم غير محبوبين من تاميل الشمال. يبدأ صاغيّة كتابه بالتعريف حول أصول كوماري الهندية، ويجري السرد في الكتاب، بضمير الأنا، وهنا يتجاوز الكاتب إشكالية مهمة من أجل التعريف بالشخصي، متجاوزاً صورتها العامة النمطية والمنتهكة في العملية التخيلية عنها، وقلما يحب أحد التعريف بها"ويُخلص الكاتب في التعريف الدقيق بسماتها وهويتها الإثنية إلى أن ما كتبه هو"تحقيق مطوّل عن عذابات امرأة، نلقاها ونتعامل معها كلّ يوم". تتكاثف شروط المجابهة التي نشأت عليها كوماري، فهي ومع أنها من العرق التاميلي، إلا أنها من أقليّته المسيحية، وبقية التاميل هم من المسلمين والبوذيين، كما أنها تفترق عن المسلمين الأغنى في قريتها، بوجوههم الفاتحة، التي تقلّ سُمرةً عن سواها، وهو أمر يعني للسريلانكيّين، إذ يَعدّونه، مع العينين الملونتين، دليلَ امتياز وتفوّق في الجمال، ربما حالهم كحال العرب أيضاً. وتبدو كوماري على رغم سيرتها اللاحقة، التي تتجول فيها بسبب العوز ما بين الكويت ومصر ولبنان، شخصية لا تخضع لتبعية بالمعنى الباطني، لما يُسرَد أمامنا من حياتها على لسان الأنا، لكنها تابع في نهاية المطاف بسبب الظروف السوسيولوجية والسيكولوجية المفروضة عليها وعلى عائلتها، وكما يقول الكاتب الهندي جِدّو كريشنامورتي:"لن يعرف التابع أبداً حرية عدم التبعية". وتحاول كوماري في كل ما عاشته أن تنال تلك الحرية المستلبة، وإن كانت القصص التي جرت معها قصصاً منطقيةً ومتوقعة في الملف الإنساني لأي عامل من حصولها على جواز سفر مُزوّر من أحد الأقرباء، إلى تعرّضها لتسلّط من سريلانكية، تتقمص دور السيدة النافذة، إلا أن ما أزّم الشخصية بقوة، وما غيّر بعضَ صفاتها التقليدية، وطوّرها من الناحية الأنثربولوجية وصولاً إلى التطورات الإدراكية التقويمية، وطرح أسئلة حول الوجود والمصير، هو مرورها في لبنان، أو على وجه التحديد، ما صادفته عند - وبعد - وصولها مطار بيروت، قادمةً على متن الخط الجوي المباشر من كولومبو، ل"يتسلمها"الكفيل اللبناني، فتعمل عنده مقابل 100 دولار شهرياً. وهناك أُخضِعت لإجراء حقن لمن يزور لبنان للمرة الأولى، من دون أن يُفسِّر لها أحدٌ طبيعة تلك الحقنة. إن التفاصيل هذه، لا تشغل بالاً لكوماري التي عملت في الكويت سابقاً، وتدرّبت على مثل هذا الإجراء عند طلب الإقامة، وكانت تجربتها هناك أشمل وأقسى، ولكنْ، ومن سوء حظ المرأة التاميلية الشابة، التي تحب الحياة بقوة، تحب الضحك، والتملص من مسؤوليات المنزل عندما كانت يافعة، أنها صادفت أول ما صادفت، صاحبة المنزل، أم الكفيل الذي يعمل قاضياً، وبالتأكيد مورس عليها الطقس التطهيريّ ذاته، الذي تعرّضت له في الكويت، عندما طلبوا منها أن تستحم، بمجرد وصولها، على نحوٍ آخر، إذ نبذتها صاحبة المنزل في غرفة باردة خارج البيت، غرفة تتحكّم السيدة بمفتاحها في شكل إلكتروني، فتغلق على كوماري مساءً وتفتح صباحاً، آذنةً لها بالخروج والعمل. ويبدو أن المرأة العجوز قد رأت في كوماري نداً لها، ولم تمنعها تجربة قاسية عاشتها مع مرض سرطان الثدي، أن تمارس تشفّياً متقصّداً من كوماري، إذ باتت تجوّعها، ولا تطعمها إلا أسوأ صنوف الطعام، كما أنها تماهت مع سلطتها على الوافدة، وكأنها رقيب دينيّ. لقد تحوّلت حياة كوماري، التي تركت طفلتها سومودو كوماري عام 2001، إلى جحيم، زاده كونها قدمت إلى لبنان بعد انفصالها عن زوجها رانجي، الرجل الذي صادفته بعد عودتها من مصر، وهو سنهالي، وبوذيّ الديانة، وقد شعرت كوماري المرأة البسيطة بأن هدايا رانجي، ومحبته القوية لها، لم تكن كافيةً لتغطيةِ أنه يخفي حقيقةً مُرّة خلف تصرّفاته الغريبة، لقد كان متزوجاً بامرأة قبلها، وله طفلة، على رغم أن القانون لا يسمح له بتعدّد الزوجات. انفصلت عنه بعد صراع مع زوجته العنيفة، فتحوّلت علاقة الحب الإجبارية بينهما، لكونها لم تفسح لغيره المجال لإقامة علاقة، إلى رضٍّ نفسيّ، لم تخرج منه إلا محطّمة. ممارسات عدوانية "أنا كوماري من سريلانكا"كتاب ثيمته اللغة الذاتية التصويرية، عن إنسانة كاملة المشاعر، لها رؤية فكرية حول ما يحيط بها من جنون وعنصرية واستعلاء وممارسات عدوانية تجاه الطبقة العاملة، وقد تكون أكثر عمقاً من النساء اللواتي عملت عندهنّ. فهي امرأة جادّة في حياتها، وقد حاولت أن تكمل تعليمها إلا أن فقر أهلها، وخالها الذي يعيلها، أجبر والدتها على أن تفرض عليها ترك المدرسة. وما يتضح في سياق إحدى القصص التي توردها، هو أنها لم تكن تقتنع بفكر الشباب في قريتها، وإن كانت تعدّ هذا جهلاً وكسلاً، فإن لقاءها العاطفي اليتيم مع الشاب الأمّيّ في مراهقتها، والذي امتلأ بارتباك الشاب وتلعثمه، عرّضها للضرب على يد خالها، والصراخ عليها بحدّة وعدوانية، تقول:"مذّاك لم أعد أحبّ أحداً". وحدها المرأة المصرية وفاء، التي أخذتها إلى القاهرة، والتي تركتها تأكل مع عائلتها على المائدة ذاتها، هي من بقي عالقاً بكامل إنسانيته بتفكير كوماري، فكانت تتجوّل وحيدةً في الشارع المصري، ولم تُضطر إلى الإقامة الجبرية، كما هو حالها مع السيدة اللبنانية، التي قادتها في النهاية إلى محاولة الانتحار، ثم الهرب لتدخل العالم السرّيّ لمن يشبهونها في بيروت. وهناك تتعرّف إلى رجل لبنانيّ، يحبّها بصدق، ويأخذها من جحيم الصراع على الفُتات واللاشيء. إنه منير الذي عاش قصة حب كاملة معها، لا يُنتقص منها شيء، ولا يُعكّر صفوها أنها من سريلانكا. لحق منير كوماري إلى بلدها، ليراها وحسب، وأحبه أهلها، والجيران الذين بالكاد تعرّفوا إليه. منير الرجل اللبناني البعلبكيّ الذي يناضل ليعيش حياةً طبيعية، ويعمل بجدّ من أجلها، هو رجل نبيل وكريم، وفق كوماري، فهو يُقدّم السجائر للجيران، كبادرة ودّ، لا تحدث عادةً في مثل قرية ماتيلي. يعرّي الكاتب صاغيّة، بلغة مختزلة ورصينة، عالم كوماري النفسي، إنه يضعها أمامنا بكل هواجسها الإنسانية، التي تتناقض مع ما تحرّكه وجوه السريلانكيين عادةً، في الآخر، من مشاعر الإذعان والطاعة. إنه نصّ عن الحرية الإنسانية، فأن تكون حراً ليس بكيفية مقدراتك، أو ما يُفرَض عليك، بل هو في أن تكون حراً في عقلك أو لا. حاولت كوماري أن تختلس من القاهرة ومن ميدان التحرير، إقامةً لم يدفع الكفيل ثمنها، ومن بيروت، احتراماً من المحيط بعد عملها في محلٍّ لبيع الثياب، ونجحت، في غالبية الوقت في أن تتمرّد كسريلانكية على واقع مُشوَّه، يضعها في إطار، ويفترض منها ألاّ تخرج منه. إنها كوماري، المرأة المنطلقة، المناضلة، التي تذعن لقرار سجنها في لبنان، لأنها خالفت الشروط القانونية للإقامة، وتدرس حتى مصاريف بقائها في السجن، الذي تعرّفت فيه إلى نسوة مهمّشات ومهملات، وإلى الطالبة الجامعية الجميلة ريموندا، التي كانت تدخل السجن، وتخرج منه، كما لو أن الأمر مجرد نزهة معتادة. العالم السفلي أول"منقوشة"أكلتها كوماري، سلبت منها نصفها عنوةً سريلانكية أخرى، اسمها سياهني، تقود كوماري إلى عالم السريلانكيين السفلي في بيروت، مختلطاً مع عالم العمالة القادم من الدول المجاورة للبنان. تقول كوماري:"وفي لبنان، أحب لبنانيين وأكره لبنانييّن آخرين، فاللبنانيون طيبون وسيّئون، عنصريّون وغير عنصريّين". إنها على وعي بأن الهجرة إلى البلدان تركت بصمات لا تُمحى عليها وعلى سائر السريلانكيّين والسريلانكيّات، وفي الوقت ذاته، لا تزال على إيمان بأن السعادة تأتي من حب الله، ومن الاكتفاء بما قدّره لنا. هذا الكلام الذي يقوله كاهن الكنيسة، يُعزّي كوماري، التي تشكر ربها على أن الحياة لم تكن قاسيةً معها إلى الحدّ الذي كانته مع كثيرات ممّن اغتُصبن وأُحرقن وشُوِّهن، أو ممّن انتحرن، لكنها فرضت أنْ يكون جسدها الفتيّ ممنوعاً ومحجوباً خلف ملابس واسعة، مع أنّ امرأة في الكويت مارست إهانةً لثقافة كوماري القروية بأنْ قصّت شعرها كالصبية. تُوجّه كوماري رسالةً مضمرة إلى جيل في سريلانكا، أتى بعدها، جيل ابنتها التي باتت تعتدّ بشخصية خاصة امتلكتها، مع ما أُرسِل إليها من مال وهدايا وتنانير قصيرة، لا تشبه اللباس التقليديّ. تقول كوماري لمن يشبهها، بعدما أتمّت الأربعين من عمرها:"كل الأحلام التي حملتُها معي يوم هاجرت من بلادي، بدّدتها مساحيق التنظيف والجلي ومسح الزجاج"، ليثير الكاتب صاغيّة السؤال: ما جدوى هذا الرحيل، من بدايته، في حال انهيار المكتسب الإنساني وحتى المادي في الرحلة؟