كان يلزمه المرور من الشارع والاستجابة لدورية العسكر والأمن. الشاب ابن التاسعة عشرة، كان حائراً، هل يتجاوز الشارع؟ هو يعرف أن القناص يقوم باستهداف كل من يتجاوز الرصيف. لم تكن حيرة طويلة، إذ سرعان ما اتجه نحو الدورية بقلب واجف، هو ميت في أي حال، إن لم يستجب لدورية العسكر، سيطلقون الرصاص. يبقى احتمال أن يقنصه الرجل في أعلى البناء، أقل. عبرَ الشارع، وتجادل لبضع دقائق مع أحد عناصر الأمن، ثم اتصل بوالده ليأتي له ببطاقة هويته، كان قد نسيها في البيت! عندما حضر الأب، كان يلهث. وصل، وسقط على ركبتيه، وهو يناول البطاقة للحاجز الأمني المسلح. لم تمض سوى دقائق، حتى اختفى الأب والابن مع الدورية. عُثر على الابن في اليوم التالي مرمياً، وفي جبهته فتحة عميقة فارغة. قال الجيران، إن فوهة المسدس لامست جبهة الابن، حين خرجت الرصاصة منها، أما الأب الذي ظن الجميع أنه محتجز لدى أحد فروع الأمن، فعُثر عليه مقتولاً، ومرمياً بين كومة جثث، في بناء يعرف الأهالي أن رجال الأمن يستخدمونه كمنطقة إعدام ميداني. لكنّ رصاصة واحدة لم تكن كفيلة بقتل الأب، كان جسده مثقوباً بالرصاص، مع أثار طعنات، وكسر في يده اليسرى. قال الأهالي: إن الأب مات وهو يدافع عن ابنه. لا بطل هنا سوى الموت. لا قصص يرويها الناس سوى عنه. كل شيء قابل للنسبية والاحتمال، إلا بطولة الموت المطلقة. أو لحظة خارجة من السياق الزمني، هي تلك اللحظة التي كنا نجتاز فيها الأسلاك الشائكة ليلاً، نعبر التيه إلى التيه، حيث حفر الشباب بوابة لمرورنا، وحيث كنا نركض حيناً، ونسير على مهل حيناً. على طرفي السياج، تخرج الأجساد فجأة من الظلام، ونسير كالعميان وقد يحتك كتف بآخر. نسمع صوتاً يقول: مسا الخير. صوت يروح، وصوت يأتي، وكأننا قطط سوداء، لكن عيوننا لا تلمع. المسافة الحدودية التي صار السوريون يختفون في الليل تحتها، ليست كبيرة، يدخل ناس ويخرج ناس، يتقاطعون عند مسافة سلام الليل، والكثيرون لا يلقون السلام. هلاميون في الانسلال. في طريق عودتنا، وعند الأسلاك نفسها، كان هناك شابان تونسيان يعبران الحدود، قال لي الشاب الذي دخل رفقتنا: إذا بقي الدعم والتمويل لمجموعات معينة من"الجيش الحر"على حساب مجموعات أخرى، لن نكون بخير أبداً. هذا الكلام ردده المنشقون، والجنود والمدنيون، الذين لا يملكون الذخيرة الكافية، كما يحصل مع مجموعات جهادية قليلة، يقولون عنها متطرفة، وممولة من بعض الدول. الكتائب الممتدة في ريف إدلب وحماة وحلب، قالت في الغالب الكلام نفسه، الكل بحاجة لدعم بالسلاح، لكن هذه الكتائب الضعيفة التمويل، تجد دائماً ما ينقذها من الانضمام للمجموعات الجهادية، يبيعون أشياءهم وأغراضهم، يساعد بعضهم بعضاً، وكأنهم أفراد عائلة واحدة، يقومون أحياناً ببيع مصاغ زوجاتهم. إحدى النساء، وعندما كان قائد مجموعة يقوم بجمع بعض المال لشراء بنادق للشباب، خلعت خاتم زواجها وقدمته له، لكنه رفض. قائد مجموعة قال لي: إذا بقينا هكذا، فلن نتوانى عن الانضمام إلى الشيطان، لنواجه نظام بشار الأسد. قائد المجموعة هذا جعلني أغصَّ بالدمع، رغم قسمي أن وقت البكاء لن يكون الآن، وأن هذا الوقت ليس للحزن. كان يتحدث وينزف روحه مع كل حرف، بدا غاضباً وحزيناً، ليس لديهم السلاح الكافي لتوسيع أرض المعركة، يريدون تخفيف القتل عن مدينة حلب ويشعرون بالعجز. سماسرة السلاح يشتغلون، والمعارضة السياسية لم تنشغل بواقع الكتائب المسلحة على الأرض، ولم تهتم بتشكيل قيادة موحدة لنا. يقول قائد المجموعة"إنهم يخلقون من التراب وسيلة للدفاع عن بلداتهم وقراهم، لكنّ هذا لن يطول، تحت القصف والجوع والحصار والقنص والاعتقال، الكل سيتجه إلى المجموعات الممولة جيداً بالسلاح. قلت له: وهذا ما يريده النظام؟ قال: قولي هذا لنخبة المعارضة السياسية والثقافية، أين هم؟ الضباط الكبار، لمَ يعيشون في تركيا؟ المعركة الحقيقية هنا! نحن نموت كل يوم، وسنموت، ولا نستطيع أن نقدم أكثر من أراوحنا، ولن نتراجع عن مواجهة النظام، ربما سنموت، لكنّ أولادنا وأحفادنا سيقاتلون نظام الأسد، أين أنتم من كل ما يحدث؟ لا أستطيع الكتابة عن طريق التسلسل، لا أجيد السرد المتسلسل. استمتع بكسر الزمن. أعود إلى أحاديث الشباب، وأتحدث عن عبورنا التائه بين حدود بلدين، وكيف استقبلتنا كروم الزيتون ورائحة البلد الجديدة، كل الجهات التي عبرتها قبلاً، كانت تستقبلني بكروم الزيتون، وجدران البلدات المزينة بصور الثورة وأعلامها، ووجوه الناس المتعبة. في السيارة التي تخترق حجاب الليل، كانوا أربعة شباب، مسلحين، تجاوزنا حواجز عدة للجيش الحر، لم تكن حواجز ضخمة، لكن الشباب، كانوا يعرفون بعضهم بعضاً. القرى محررة، ومنها شبه محرر، كلمة محررة هذه فضفاضة، لأن السماء ما زالت رهينة النظام. تنطلق بعض القذائف من حولنا، ونسمع أحياناً هدير طائرة، الشباب يطمئنونني، كل شيء بخير، لكنّ هناك بضعة كيلومترات من الخطر. بسيطة جداً، يقول أحدهم، وهذه"البسيطة"تعني أن الموت سيأتي من السماء! نحن في السيارة، لدينا مجرد تحويلة، سنمر على"بنش"ونشارك في التظاهرة، ثم نلتقي إحدى الكتائب. التظاهرة في"بنش"كانت خالية من النساء، وفيها أعلام مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. كنت وحدي وسط الفتيان والشباب، وكانوا يحدقون بي بغرابة، بعض الشباب تعرفت عليهم، وكانوا في غاية اللطافة والتهذيب، غنوا وصفقوا ثم جاء شيخ يخطب فيهم، لم نغادر البلدة فوراً. كانت محررة فعلاً، لكن السماء خائنة، هناك حالة من الغدر والخسّة، عصيّة على الشرح تقوم بها الطائرات ومدافع الدبابات"لا يستطيعون مواجهة الثوار على الأرض، لايجرؤون على الدخول إلى البلدة بعد معارك مع أهلها للدفاع عن أنفسهم، يأتون ليلاً وفي أول الفجر، يقصفون ويهربون. يموت الأطفال والنساء والشيوخ غالباً، ولا يملُّ الأهالي والكتائب من مواصلة القتال، هذا قدرنا، يقول الشباب في"بنش". كنا قبلها قد مررنا على إحدى القرى، والتحقت بنا سيارة أخرى للمجموعة من الشباب، سوف ينطلقون صباحاً إلى مدينة حلب. معظم الشباب كانوا في بداية العشرينات. كل الأحاديث التي نسمعها عن الخوف من الكتائب لأنهم سلفيون وجهاديون، يفتقد الدقة. لم أشاهد امرأة سافرة أبداً، وهذا جزء من ثقافة العيش، هم يمارسون شعائر الإسلام، ولكن لم يحتجّ أي منهم على خروجي سافرة، وعندما كنا ننتقل بين البلدات والقرى، كنت أضع الحجاب حتى لا نلفت انتباه المجموعة، ولكن عندما كنا نجتمع بالشباب، كنت أجلس بينهم سافرة، منهم من لم يصافحني، كان هناك بيننا حوار عقلي وإنساني عالٍ، ولكن هم أنفسهم، أخبروني أن هناك كتائب أخرى لن تقبل بوجودي بينهم إلا محجبة. لم يتحدث أي منهم عن قيام دولة الخلافة الإسلامية، بل تحدثوا عن دولة مدنية، ولكن هناك كتيبة واحدة تريد أن يكون الشرع الإسلامي هو القانون، لكنها كتيبة صغيرة، الغريب أنها ممولة جيداً بالسلاح والمال، على خلاف الكتائب ذات التوجه المعتدل، ولكن في العموم نسبة هذه الكتائب وتوزعها لم تكن عالية، ولم تبدأ إلا قبل أشهر قليلة، حتى الحديث عن"الجهادييّن العرب"كان مبالغاً فيه، لكنه وبعد كل مجزرة كان يزداد. في البلدة التي بقينا فيها، كان قرابة 19 مجاهداً عربياً من أصل 750 من المقاتلين تقريباً. العشاء الذي تناولناه في"بنش"كان أكثر من كريم، أدهشتني مرونتهم في الحوار ودماثتهم، ورغبتهم في الحديث عن المشكلة الطائفية وضرورة حلها، تحدثنا عن محاور عدة، وعن ضرورة عدم إفساح المجال لحرب طائفية، قال لي أحد الشباب، إن هناك ردود فعل عنيفة ضد عنف النظام، لكنها قليلة، ولا تتجاوز حالات فردية يتم تصحيحها ونبذها. سيقول لي الشباب بعد أيام أيضاً إن هناك شاباً ينتمي إلى الطائفة العلوية تم ذبحه، رداً على مجزرة، ونحن وقفنا ضد هذا العمل. حتى الآن لم يكتمل للنظام ما أراده، ولم تهجم قرية سنية على قرية علوية، هذا لم يحدث، ولن يحدث أبداً، ولو دفعنا أرواحنا ثمناً لذلك. لكننا لا نستطيع السيطرة على حالات الغضب عند بعض الذين يتم قتل عائلاتهم كاملة، أو قصف بيوتهم. الزمن ليس في مصلحة هذا الغضب! سيروون لي الكثير من التفاصيل عن بعض العصابات المرتزقة، التي تسرق باسم الجيش الحر وتخطف باسم الكتائب، والتي ينشغلون بها عن مقاتلة النظام بحل مشاكلها، أو عن بعض النزاعات بين الكتائب المسلحة التي تتسبب بها تفاصيل وضيعة أحياناً، تصل إلى حد أن بعض الكتائب تخطف عناصر من بعض البلدات التي يدخل أفرادها في نزاع شخصي، ويقوم الوجهاء في ما بينهم بحلها. سيتحدث الشباب عن بعض أخطائهم، ويفكرون بتصحيح مسار الثورة. لكني تساءلت حين ودعتهم: ما الذي نريده أكثر من ذلك؟ من الممكن أن لا يمثل هؤلاء جغرافيا الشمال كاملاً في ريف حلب وإدلب وحماة، لكنّ كل الكتائب التي التقيتها، لم تشذ عن هذه القاعدة، بما فيها اللقاء بشيخ إحدى العشائر. كنت أستمع إلى شباب"بنش"حين دوى صوت انفجار كبير، ونحن على الشرفة، كانوا نحو عشرة وفي الجهة المقابلة للشرفة المطلة على الليل. لمعت السماء، فقال أحدهم: قصف على تفتناز. كنا قريبين من مكان القصف، وعادوا إلى متابعة الحديث وطلبوا مني الاستمرار في تناول العشاء. أكلت بصمت، وكنت أسمع دقات قلبي من الخوف. سيكتب لي أحدهم لاحقاً: بعد أن غادرتِ بدأ القصف علينا، الحمدلله أنك رحلتِ. كان كل شيء يسير وفق نهاية يوم مغبر، بالعدو والركض ولمعان السماء بالقذائف، لولا شوارع مدينة"الأتارب"، حيث أصر الشباب أن أرى فيها مقبرة الدبابات، التي قام الجيش الحر بالقضاء عليها. مجموعة من الآليات المحترقة تتكوم، هياكل معدنية معجونة، وآثار الحريق تمتد في المكان، ووسط البيوت المقلوبة مثل علب كرتونية ممزقة، الصمت والوحشة، لا صوت في"الأتارب". لا شيء، ولا حتى الهسيس، ولا عويل كلاب! فقط في نهاية أحد الطرق الفرعية، ونحن نبحث في الخراب الهائل الذي يفسر معنى كلمة"إبادة"ويشرحها أيضاً بتفصيل. هناك ضوء شمعة داخل دكان صغير، ومن بعيد يلوح خيال امرأة تتحرك، كان هذا الأثر الوحيد على أن"الأتارب"ليست مدينة أشباح. كنت أفكر، في كمية الخراب التي حولت المدينة إلى ركام، مجرد ركام بلا تشكيل ولا هوية، وكنا ما زلنا نسمع أصوات القذائف القريبة. حرّك القائد بندقيته وقام بتلقيمها بسرعة، ارتجفتُ. ثم وضع قنبلة في يده. كانت القنبلة إلى جانبي مباشرة، القائد يضعها على جنبه، نظرت إلى كتلتها الخضراء، بضعة سنتيمرات وألمسها. ارتجفت ثانية. ونحن نجتاز المنطقة الخطرة، وهو يحكم قبضته على القنبلة، وضع سلاحه على طرف الزجاج، وقال: هون منطقة خطر. انتبهت كيف كان كذئب يجول بعينيه في الليل. قال:"يا أما كلاب النظام، يا أما الزعران والحرامية اللي بيشلحوا باسم الجيش الحر". الشاب في الأمام جهز بندقيته، الشاب الآخر، كان يقود بثبات الأنبياء. والآخر إلى جانبي قام بالحركة نفسها بسلاحه. استطعنا المرور في العتمة المخيفة، كانت أشجار السرو عالية، وتحيط بالطريق الإسفلتي الضيق. بدا لي أن هذا الطريق لن ينتهي. تظاهرت بالشجاعة، وأنا أسمع طرق قلبي. لكنّ استرخاء البندقية إلى جانب قائد المجوعة، ووضعه القنبلة في جيب سترته، جعلاني أفكر بأن الوقت حان للزفير، لولا فوهة البندقية التي صارت في مواجهتي. وضعها القائد بيني وبينه، الفوهة أمام عيني تماماً، فكرت أن حركة سنتيمترات من أصابعي، على الزناد، كفيلة لأغرق في العتمة الأبدية العذبة. فوهة صغيرة جداً وشهية، تحدق بي وسط العتمة. انتشلني منها صوت القائد، وهو يقول: نروح كلنا ولا تُمسّ شعرة منك.