اسقاط الجيش السوري المقاتلة التركية على مقربة من الساحل السوري هو ثمرة مؤامرة دولية معقدة فيها كثير من الخفايا والتعقيدات، وهدفها تقييد السياسات التركية الداخلية والخارجية. فهذه العملية أكبر من أن تخطط لها أو أن تجرؤ عليها الدولة التي نفذتها. لكنها كانت عملية أو مؤامرة ناجحة. فهي رمت الى تشويه صورة تركيا التي بدأت تتحول قوة إقليمية بارزة، وكسر شوكتها وقوتها في المنطقة من طريق اسقاط طائرتها وإحراجها. فتضطر أنقرة الى أن تختار بين اللجوء الى الحرب أو اللجوء الى الحلف الأطلسي الناتو والأمم المتحدة. وهذا خيار صعب. ويحسب اصحاب المؤامرة ان تركيا لن تختار الحرب، وأنها لن تلقى الدعم الذي تريده في مجلس الامن ومؤازرة"الناتو". ويسعى هؤلاء الى صب الزيت على النار في السياسة الداخلية التركية لتبدو الحكومة ضعيفة، فيخبو زخم أي خطوة سياسية جريئة قد تقدم عليها في هذه المرحلة. لا شك في أن اللعبة او المعركة تبدأ الآن. وحريّ بتركيا أن تنتبه الى خطواتها وأن تتأنى في اتخاذها، فالمهم ليس ما حصل، بل كيفية ردها على العدوان. والحق ان أنقرة، وباعها طويل في الديبلوماسية والسياسة وتجربتها لا يستهان بها، اختارت التروي، وجمعت الأدلة، واتصلت بحلفائها وأطلعتهم على البيّنات، وشرحت الحادثة لقيادات الاحزاب في الداخل، وحشدت دعماً داخلياً ودولياً. وفنّد وزير الخارجية، أحمد داود أوغلو، في حديثه إلى التلفزيون الرسمي ادعاءات الجانب السوري، مؤكداً ان الطائرة لم تكن تحمل أي نوع من السلاح وأنها كانت في مهمة تدريبية، وخرقها الأجواء السورية لفترة بسيطة ومحدودة أمر يحصل من وقت الى آخر، ولا يستدعي إسقاطها. فالجانب السوري لم يحذّر الطائرة ولم تخفَ عليه هويتها. وحوادث خرق الأجواء في شرق المتوسط متكررة ومعتادة. فالطيران الإسرائيلي خرق أجواء تركيا خمس مرات لمدة 15 دقيقة، اثناء طلعات استكشافية في شرق قبرص في اطار عمليات البحث عن النفط. وتتبادل الطائرات التركية واليونانية خرق الأجواء، وكذلك التهديدات وهي مدججة بالسلاح، ولكن لم نشهد يوماً اسقاط طائرة على ما حصل اخيراً. ولا يخفى أن سورية جددت راداراتها ونظام صواريخها من طراز"اس 200"من أجل رصد أي خطر جوي في شرق المتوسط. لذا، فالكلام على أن دمشق لم تكن على علم بهوية الطائرة التركية أو نواياها وأن ما حصل كان حادثة غير مدبرة، مضحك وكذبة مفضوحة. وإسقاط طائرة دولة اخرى هو آخر خطوة قبل إعلان الحرب عليها، لذلك تتجنب غالبية الدول مثل هذه الخطوة. يقال أن ليس في مقدور تركيا الرد عسكرياً على هذه الحادثة. فلو كانت قادرة على هذا الرد واستعراض قوتها، فلماذا لم ترد على اسرائيل حين هاجمت سفينة مرمرة؟ مع الأسف هناك من سيروّج لهذه المقولة لكن الكلام هذا يجافي الواقع ويخلط الأمور. فالعقل السليم يفترض التأني والحكمة، وستشهد تركيا ضغوطاً نفسية - إقليمية تثقل على اعصابنا وتؤجج مشاعرنا القومية. فعلى سبيل المثال، شمتت عناوين الصحف اليونانية بالموقف التركي. وعلى رغم الشماتة، يجب أن تلتزم تركيا المثل القائل"من يضحك أخيراً يضحك كثيراً". علينا ألا ندع حلف"الناتو"في منأى عن الحادثة، فإسقاط طائرة تركية هو اعتداء على إحدى الدول الاعضاء في حلف شمال الأطلسي. وعلى الحلف ان يتحرك ويأخذ موقفاً حازماً، وإلا بادرت تركيا الى موقف أحادي، فإذا لم يرد بقوة على هذا الاعتداء السوري - ولكن من غير تسرع - اهتزت صورة تركيا في المنطقة. ما أُسقِط قبل يومين، ليس طائرة تركية فحسب. * صحافي، عن"ستار"التركية، 25/6/2012، اعداد يوسف الشريف