تحولت الجزائر مع بداية القرن الحالي إلى ورشة ضخمة للمشاريع في مختلف الميادين، بفضل بحبوحتها المالية، وبخاصة في قطاعات البناء والأشغال العمومية والتنقيب عن البترول والري وغيرها... وأدى اتساع دائرة المشاريع إلى تزايد الحاجة إلى اليد العاملة الأجنبية على كل المستويات، ما فتح باب الرزق أمام العمال البسطاء وذوي الكفاءات على حد السواء. والنتيجة أن تحولت الجزائر إلى وجهة كبيرة للعمالة الأجنبية، إلى درجة لم يعد يلفت الجزائريين تواجد الأجانب في الأماكن العامة. وباتت"تشاينا تاون"جزءاً من المدن التي يعشّش فيها الصينيون"أكبر الجاليات الأجنبية العاملة في الجزائر"، واللهجة المصرية واللغتان التركية والفارسية، واللكنتان الإيطالية والاسبانية، قطعاً في فسيفساء المحيط المهني للكثير من الجزائريين. وكان وزير العمل والتشغيل والضمان الإجتماعي الطيب لوح، شرح في آخر تصريح له أمام البرلمان في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، أن خمسين ألف عامل أجنبي حصلوا على تصاريح عمل في الجزائر، أكثر من 43 في المئة منهم صينيون، يليهم المصريون الذين ينشطون اساساً في قطاعات البناء والأشغال العمومية والصناعة. أما عن النسبة العامة للعمالة الأجنبية مقارنة بالمحلية فلا تتجازوز الواحد في المئة وهي نسبة ضئيلة وفق المسؤولين، ما يعني أن باب العمل يمكن أن يبقى مفتوحاً أمام الأجنبي طالما استمرت الحاجة اليه. ويعد برنامج دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتحكم بتكنولوجيات الإعلام والاتصال، مشروعاً مختلطاً جزائرياً - أوروبياً يهدف إلى مرافقة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ويعمل خبراء جزائريون وأوروبيون على تقديم المساعدة لمن يطلبها من بين مسيّري المؤسسات. تتعايش في هذا البرنامج جنسيات من مختلف الدول الأوروبية كفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وحتى رومانيا، إضافة إلى تونس كدولة عربية وحيدة. طبيعة المهمة تتطلب خبرة طويلة المدى، ويضطر الخبراء إلى البقاء في الجزائر بعيداً من عائلاتهم، ومنهم من يُضطر إلى انتظار مرور شهر كامل قبل التمكن من زيارة عائلته ومنهم من يعتمد على الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، للاطمئنان على الأحبة، أما الأكثر حظاً فهم التونسيون الذين يتقاسمون مع الجزائر الحدود الجغرافية، فيتمكنون من العودة إلى أهلهم في نهاية الأسبوع. يعمل باولو كاستراتارو 47 سنة، الإيطالي الجنسية، منذ عام 2009 رئيساً للعاملين في برنامج دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتحكم بتكنولوجيات الاعلام والاتصال، بموجب عقد خبرة طويل المدى، ما يضطره للبقاء في الجزائر طوال الشهر، في ظلّ دوام عمل يشكل بالنسبة اليه مشكلة حقيقية:"لي زوجة وطفلان 9 و12 سنة، يقيمون في بروكسيل في بلجيكا. زوجتي بحكم عملها ترفض الانتقال الى الجزائر معي، لأن عملي بالنسبة اليها غير مضمون على عكس عملها". ويضيف:"أشعر بالتقصير إذ انها تجد نفسها المسؤولة الوحيدة عن جميع التفاصيل من مدرسة الاولاد الى المنزل وعملها، فيما أعود أسبوعاً واحداً كل شهر إلى بيتي"، موضحاً ان"هذا الامر يسبّب لنا مشاكل جمّة، وأكثر الأوقات صعوبة، عندما يحين وقت تركي عائلتي والعودة إلى العمل، أو عندما يمرض أحد الأطفال أو يقع حادث وأنا بعيد من البيت". مشاكل كهذه جعلت باولو يقرر عدم خوض تجربة الجزائر ثانية:"إنها المرة الأولى التي أعمل فيها وفق عقد خبرة طويل المدى، وستكون الأخيرة". وإلى أن تنتهي مدة عقده في 2013 على الأقل، يظل الانترنت و"سكايب"والهاتف وسائل اتصاله بعائلته يومياً. وسائل لا غنى عنها، لدانييلا كوكو الخبيرة الرئيسية بالبرنامج، جاءت إلى الجزائر من رومانيا وهي تعمل أيضاً بموجب عقد خبرة طويل المدى بعد تقاعدها عن العمل في بلدها. الانترنت وسيلة دنييلا الوحيدة للاتصال بزوجها وابنها المتزوج في رومانيا، حيث لا تعود لرؤيتهم إلا أسبوعاً كل شهرين:"ألتقي بزوجي في أوروبا الغربية، فالذهاب إلى رومانيا مجهد لأنه لا توجد رحلات مباشرة". وعن العمل تقول دانييلا:"إنها المرة الأولى التي أعمل فيها في الجزائر، بموجب عقد طويل المدى، فقد عملت سابقاً بموجب عقود قصيرة المدى في سورية وتركيا وألبانيا". وإلى جانب الاعتبار المالي الذي يدفع بالخبراء إلى قبول مناصب عمل دائمة مقابل تضحيات أسرية، تقول دانييلا:"الرغبة في رؤية نتائج العمل الذي نقوم به، تشكل حافزاً لنا، لأنه في الفترات القصيرة المدى التي قد تدوم أسبوعاً نعمل على موضوع محدد ولا نرى نتائجه باعتباره جزءاً من عمل متكامل قد لا نعرفه". ويبقى أكثر الخبراء حظاً في البرنامج التونسيون الثلاثة الذين يعودون إلى بلادهم كل نهاية أسبوع، ويقول شكيب بن مصطفى خبير رئيسي في الدعم المؤسساتي:"بفضل قرب المسافة استطيع زيارة عائلتي اسبوعياً، ومع ذلك أبقى بعيداً عن أسرتي في حين تتحمل زوجتي كل الأعباء في غيابي منذ ثلاثة سنوات". ويوضح:"أكثر الأوقات صعوبة، عندما لا أستطيع التواجد لحل مشكلة طارئة، بسبب التزاماتي المهنية. اضطررت مرتين للعودة تاركاً طفليّ بعد خضوعهما لعملية جراحية، ليس الأمر سهلاً"، ما يدفع بشكيب إلى التفكير جدياً بعدم الالتزام بعقود عمل طويلة المدى، بعد انتهاء مدة عقده. ويعيد شكيب شبب عمله خارج بلده إلى طبيعة تخصصه، الذي يُنهي عمله بمجرد اتمام مهمته وتحقيق النتائج المطلوبة،"لذلك عليّ أن أبحث عن عمل باستمرار في الخارج، عملت في المغرب العربي وفرنسا وأفريقيا وهي المرة الأولى التي أعمل بها في الجزائر"، يقول شكيب، الذي يحب العمل الدولي لأنه يسمح له بتنويع علاقاته وتوسيعها. ويضيف:"يسمح لنا هذا العمل بالمساهمة في تطوير اقتصاد الدول التي نعمل لحسابها، وإقامتي بالجزائر أسهل من غيرها لأننا نتقاسم معها الجغرافيا والثقافة ناهيك بالجالية التونسية الكبيرة المتواجدة على أراضيها".